شعار قسم مدونات

أدين لكِ بأعظم من الحُب

مدونات - قلب
حبيبتي، وكيفَ لا تكونين حبيبتي وعلى راحتيكِ دقَ قلبي للمرة الأولى وبين ضلوعكِ فرت روحي من غمار الدنيا، كيفَ لا تكونين حبيبتي ولم يُكن قلبي حُبا لبشر بقدرِ ما أحبك ولم يتعلم الحُب إلا بينَ يديكِ .. فكنتِ حبه الأول ومنتهاهُ حيثُ أظلمت الدُنيا وزادت الغُمة ولا مَفر للصبي إلاكِ، في بطنكِ كانَ القدرِ الأول، وتحتَ جِناحِكِ كان النفسُ الأول، وإليكِ كان الشوقُ الأول، والحُب الأول وإليكِ كل شيء يؤولُ، حتى أنا.
 
أما بعدُ يا أمي،
فالأيامُ متلاحقة، ها أنا أذكر نفسي بين يديكِ وأذكرُ تعلقي بكتفيكِ، أرى وجهي يحتضرُ فأرتمي فيكِ، وأرى ضيقَ الدنيا فتصبحين أنتِ المتسع، أتحسس أناملكِ تجفف عناءَ وجهي، وتطبب دموعَ قلبي، أراكِ تنتظرينني بشوق بعد أول يوم في ساحة المدرسة، وتنتظرينني بالشوقِ نفسه يوم غبتُ ليلة ولم تدرك عيناكِ فيها النُعاس .. فيتطايرُ النومُ منهما وكأنَ مُصابا ألم ببعض منكِ، لتجيبينني: أنتَ كلكَ مني، ولستَ بعضي، فكيفَ تغفو العينُ عن كُلِها وهي بعدُ لم تبصرك.

أغيبُ كيفما أغيبُ ثم أعود لأجدكِ ترحبينَ بي في أضلعكِ موطني، تنهرنُي عينكِ أن غِبتُ وفي بالي ألا أغيب، ثمُ أعودُ فأغيب، ولا أجد من الأرضِ ما يسعُني سواكِ

أسمعُ بعينِ المحبُ ثم أردد، فيقولون من علمّكَ، أفخرُ بأنني يوما كُنت أجلسُ في جلبابها، تقرأُ علي القرآن، وتسردُ لي بعض أحاديثِ النبي، تسمعُ دروسَ السيرةِ برفقتي، وأناظُرها في جُلِ ما أسمعُ فتغلبني، ثم تلُفني بيدِها في أجلِ بقعة وطئت رأسيّ فيها، ثم تتراجعُ لأسعدَ بأن قد غلبتُ أمي اليوم، وهي في نظري أعلمُ أهل الأرضِ وأجلهم، فكأنَ لي غلبة أهل الأرض وأُمي أعلمهم.

سيدتي؛ ولدك تمكن منه أعداؤه، وبات بينه وبين السجنِ خُطوات، لم تهتزي بل كنتُ ألمسُ فيكِ صمودا لم أجدهُ في سواكِ، صارَ صمودُكِ قِواي، وصارت قوتُكِ عوني، جالدني عبيرُ صوتكِ حتى صرت بهِ أفتخر، كان مما قلتِ: إن حان اللقاء يا بُني فلا مفر، وإن أراد العالم كُله الهلاكَ لك فإن الله غالب، لستُ أملِكُ من دنياي شيئا غير الدعاء وكلي يقين بأن الله لن يضيعكَ، ولم يضيعني بل زادني، وعوَّضني وكنتُ بكلماتِكِ أقوى، فكانت ما أُغالِبُ بهِ إذ خارت قوتي.
يعلو صوتي، وأنسى أن صوتي هو بعض منكِ فأزجرني وأكرهني، أعلمُ أن أنفاسي لفظ من أنفاسِكِ، وأنك الفضلُ كلُ الفضلِ في كل ما ورثتُ من تعلُم أو قراءة بعدَ الله عزوجل. وأن الكلماتِ ما كانت لتنفكَ سوى عن عينكِ وأمامَ بصركِ وتحتَ سمعِك، فيخفتُ صوتي تأدُبا وخفضا لجناحِ الذلِ الذي أمرَ المولى بخفضه، ولا يسعني في ذلكَ رد جميل، أو اعتراف بفضل.
  
أغيبُ كيفما أغيبُ ثم أعود لأجدكِ ترحبينَ بي في أضلعكِ موطني، لا أشتمُ رائحةَ العتاب ولا أراهُ في عينيكِ، فقط تدللينني، تنهرنُي عينُكِ أن غِبتُ وفي بالي ألا أغيب، ثمُ أعودُ فأغيب، ولا أجد من الأرضِ ما يسعُني سواكِ.. ولا أجدُ بقعة أحبَ إلى فؤادي من أضلعكِ، مهما تمددت أضلعي، هو المكانُ ذاتهُ الذي كنتُ لا أبرحهُ يوم وضعتني، أوسعُ من أبوابِ الدُنيا بزينتها، وأحبُ إلي من جنانِ الأرضِ على نضارتها واتساعِ مدها.
 

أمي.. أظلُ فقيرا لرأيكِ مستفهما لكلمكِ صغيرا في وجودكِ مهما بلغت ومن كنت، أدينُ بأن قلمي ما استمدَ مدادهُ إلا بروحِكِ، ولا خط كلماتهِ الأولى إلا في حضرتكِ
أمي.. أظلُ فقيرا لرأيكِ مستفهما لكلمكِ صغيرا في وجودكِ مهما بلغت ومن كنت، أدينُ بأن قلمي ما استمدَ مدادهُ إلا بروحِكِ، ولا خط كلماتهِ الأولى إلا في حضرتكِ
  

السفر، ومالي لا أُسافر! لكن أمي ستبقى بمصر، ليسَ لدي خيار.. أحبُها وإن لم تستطع حروفي أن تُبدي ذلك، وإن تجمدت العبراتُ في مقلتي، وإن هجرني الكلامُ وحسنُ الطلةِ أياما، أحسبُ أن روحي سقيمة دونَها، وعلاجُها قبلتُها التي تصنعُ صباحي مهما كان ثقيلا، أو صعبا، وما أسلفتهُ لا يُعار ولا ينفعُ الأنترنت في إرساله، ولا يستقيمُ سوى أن أكونَ في جوارِها، وإن كان الفوزُ كلهُ في غيرِ مصر، يبقى الالتجاءُ إليها كاللجوءِ إلى الوطن، وفيها الزودُ عن كلِ نقص أو قلة.

 
يوما.. أجلسُ وقد دعاني صاحبي لغداء في بيته، أطرِبُ في وصفِ جمال اللحمِ والأرزُ والرُقاقِ، أشكرهُ على مأدُبتهِ تلك ولا أكذب، تتدخلُ والِدتهُ؛ أرنو أن يكونَ الطعامُ قد نالَ إعجابك يا بُني، فأستزيدُ بما قلتهُ وأزيدُ عليه، فتقولُ هو أجملُ من طهو أمكِ! .. فأجزُم أنه لا أطيبَ من طهو أمي مهما بلغَ، فأقولُ هو جميل، لكنهُ ليسَ كطعامِ أمي، فتضحكُ أمُ صديقي وتدعو لي ولها.
  
أدينُ لكِ بأعظمَ من الحُب، أدينُ بأنكِ ما بخلتِ بود قط، ولا سألتُكِ في أمر إلا كنت عليه أقدرَ مني مهما خُيلَ إلي أنني أمتلكُ قوة أو أملكُ رأيا.. أظلُ فقيرا لرأيكِ مستفهما لكلمكِ صغيرا في وجودكِ مهما بلغت ومن كنت، أدينُ بأن قلمي ما استمدَ مدادهُ إلا بروحِكِ، ولا خط كلماتهِ الأولى إلا في حضرتكِ، أدين ولا أقدرُ على رد الدين، ولن يمهلني الزمانُ لأفعل، لأنهُ مهما زاد مداد القلم واتسعت دواةُ الحبرِ تبقى الحيلةُ أقلَ من أن تصفَ عِظمَ الدينِ أو كثيرَ ما أعطيت ولا أُبالغ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.