شعار قسم مدونات

فلسطين.. بعيون مالطيّة!

مدونات - مالطة

لطالما سمعت اسم "مالطا" في قريتي في فلسطين، فكثيرا ما نضرب بها المثل إذا أردنا الحديث عن مكان ما بعيد.. أو حتى "مجهول". ومع زيارتي لهذا البلد، اكتشفت أننا نجهل الكثير عنه، فنحن لا نعرف مثلا أن مالطا هي عبارة عن ثلاث جزر وليست جزيرة واحدة، أو أنها من دول الاتحاد الأوروبي، ثم إن نسبة لا بأس بها منا لا تتخيل أن اللغة المالطية أقرب للعربية من أي لغة أخرى، والأهم أن أكثرنا في فلسطين لا نتخيّل كم هي الأشياء التي تربط هذا البلد ببلادنا.. ابتداء من العمارة وانتهاء بأحد هُتافات فريق العاصمة فاليتا!

مالطا مثل فلسطين، موقعها الجغرافي البديع جعلها دائما عُرضة للغزو، علما بأنها صغيرة، أصغر من فلسطين ومساحتها أصغر من مساحة قطاع غزّة، هذا غير أن مساحة عاصمتها "فاليتا" أصغر بقليل من مساحة البلدة القديمة في القدس، وفي كليهما سحر يُذكّر الزائر أن الحكايات أكبر من أن تحدّها الحدود والجغرافيا وما يتبعها من أرقام!

فاليتا وما فيها من "جاليريـات" تُذكر بالمشربيّات التي تزين المدن العربية القديمة، أما مدينة "مْدِينة" فهي لا يُمكن إلا أن تُذكّر بالقدس وعكا، فأسوارها العالية وما حولها من تحصينات تُذكرنا بأسوار البلدة القديمة في القدس وأسوار عكّا التي قهرت نابليون، ولأن التشابهات ليست قليلة، فقد سألتُ عنها وقيل لي إنه لا يُستبعد أن يكون "فرسان مالطا" الذين مكثوا في القدس وفلسطين فترة طويلة تصل إلى أكثر من 200 عام في فترة الحملات الصليبية، قد نقلوا الكثير من المعارف في البناء والعمارة إلى أوروبا ومالطة بشكل خاص حيث المناخ لا يختلف كثيرًا عن فلسطين أيضا.

صحيح أن مؤسس حركات الجهاد الإسلامي فتحي الشقاقي تم اغتياله في مالطا عام 1995 من قبل عناصر الموساد الإسرائيلي.. إلا أن حكاية التغنّي بفلسطين ومقاومتها أقدم من كل هذا!

على بُعد بضعة دقائق مشيا عن بوابة "مْدينة"، هناك مدينة أخرى تسمى "رباط" وهي تسمية عربية مثلها مثل تسمية "مدينة" و"سليمة" و"مليحة" وهذه كلها أسماء مدن في مالطا حتى اليوم، في "رباط" لم تكن عربية التسمية فقط، بل أكاد أجزم أن كُل شيء هناك كان يُذكرنا بفلسطين، ابتداء من العفوية إلى العشوائية وحتى العمارة التي كانت تشدّني بطريقة لم أعهدها من قبل في "اوروبا"، فقد وجدتُ نفسي في زقاق يُذكرني بأزقة البلدة القديمة في يافا والقدس بكل تفاصيلها، كالـ"مشربيّة" أو حتى مدخل البيت مع "الزريّعة" من حوله. المثير أن هذه التشابهات تمتد إلى مدن مثل "سانت جوليان"، فمن يجلس عند الخليج الصغير ويتأمل البيوت القديمة المقابلة للشاطئ سيُخيّل إليه لوهلة كما لو أنه في عكا أو حتى يافا!

ما لم أتخيله بتاتا أن تكون أحد هتافات فريق العاصمة المالطية "فاليتا" Valletta FC مرتبطة بفلسطين والمقاومة الفلسطينية، فما الذي يجعل هؤلاء المالطيين يهتفون باسم فلسطين كرمز للعزة في لعبة كرة القدم وهم يهتفون بالمالطية: "إحنا تاع البالستينا.. حد ما يسطا(ع) علينا Ahna tal-Palestina, hadd ma jista’ ghalina" والتي تعني بالعربية: "نحن مثل الفلسطينيين، لن يستطيع أحد أن يغلبنا".

صحيح أن زوجة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات وابنته الوحيدة تعيشان في مالطا، وصحيح أن مؤسس حركات الجهاد الاسلامي فتحي الشقاقي تم اغتياله هناك عام 1995 من قبل عناصر الموساد الإسرائيلي.. إلا أن حكاية التغنّي بفلسطين ومقاومتها أقدم من كل هذا!

بحسب الكاتب المالطي "آلبرت فينكل" فإن الحكاية تعود إلى خمسينيات القرن الماضي، أي بعد نكبة فلسطين، وذلك بعد تسليم القوات الإنجليزية البلاد للحركة الصهيونيّة ومغادرتها فلسطين، حيث تم نقل الكثير من الجنود الإنجليز إلى مالطا التي كانت تقبع تحت الحُكم الانجليزي حتى 1964، وفي العاصمة "فاليتا" وجد الكثير من الجنود مُبتغاهم في النوادي الليلية والخمارات التي كانوا يرتادونها كل يوم وبأعداد كبيرة، حتى أصبح الأمر لا يُطاق، فاجتمع نفر من الشباب المالطي وكوّنوا "كتائب فاليتا" وقرروا مقاومة الجنود ومنعهم من دخول المدينة، واستمرت "حرب الشوارع" في فاليتا بضعة أيام وصارت المقاومة الفلسطينية رمزا لتذكير الجنود الإنجليز بأن الشباب المالطي كالفلسطيني لن ينصاع وسيقاوم.. فليس هناك أحد يمكن أن يغلبه!

تغيّرت الكثير من الأمور في مالطا، ولكن هتاف "إحنا تاع البالستينا.. حد ما يسطا(ع) علينا" لا يزال حاضرا حتى اليوم في ملاعب فاليتا، وليس هذا فحسب، فالأجمل أنه حتى خارج الملعب فإن الكثير من المالطيين يُقدّرون فلسطين بشكل خاص وخاص جدا، وهو ما لمسته في معظم الأماكن التي زرتها ومن تحدثت إليهم في رحلتي.. وعلى رأسهم صاحب محل للكعك في "رباط" الذي راح يسألني عن فلسطين وأحوالها بلهفة عجيبة .. بت أفتقدها في كثير من أحاديثي مع العرب والمسلمين ممن يشعرون بالملل من أخبار فلسطين!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.