شعار قسم مدونات

"Big Little Lies" جمال.. مال.. شهرة وأكاذيب

blogs مسلسل

سيمضي المشاهد للمسلسل القصير (أكاذيب صغيرة.. كبيرة) جزءا أساسيا من وقت المشاهدة وهو يحسد، ولا نقول يغبط، شخصيات المسلسل الرئيسية على تلك البيوت الرائعة المطلة على بحر يتفنن المخرج في تصويره، هائجا دائما، مقابل تلك البيوت التي تبدو هادئة، وتنعم برخاء استثنائي، بزوجات حسناوات، ومستوى معيشي مرتفع، ومكان مفتوح على اتساعه. لكننا كلما تقدمنا في مشاهدة المسلسل المكوّن من سبع حلقات، لا أكثر، اكتشفنا أن عالم الشخصيات قاتم ومدمَّر، ومدمِّر أيضًا.

 

ثمة مثل شعبي لدينا يقول (من برّا رخام ومن جوّا سخام) ولعله أفضل الكلام، أبلغه، وأدلَّه على عالم وأجواء هذا المسلسل الرائع، الذي يمكن أن نعتبره أيضا مسلسلا محظوظا، لأنه يصوِّر في كثير من خطوطه الدرامية، التي تؤهله لنجاح متصاعد، ذلك العنف الذي يمارسه الرجل ضد المرأة، من الاغتصاب حتى العنف الجسدي والروحي، كما يصور صمت النساء على ذلك العنف، وهو بذلك جاء نسخة درامية لليلة حفل جائزة الغولدن غلوب، وأفضل تعبير عن كل ما يدور في نفوس العاملات في السينما، اللواتي جئن إلى الحفل وهنَّ يرتدين السواد، احتجاجا على الاستغلال البشع الذي يمارس ضدهن في أروقة الإنتاج والإخراج والتمثيل.

 

أهمية مسلسل "أكاذيب صغيرة.. كبيرة" القصير، الذي يبدو كفيلم طويل مُحكم، تكمن في كثافته، بعيدا عن منطق السوق الذي حول كثيرا من المسلسلات إلى أنهار من الحلقات، أو المواسم التي لا نهاية لها

من هنا، نقول: كان مسلسلا محظوظا، لكن ذلك لا ينتقص من حقه في الفوز، لأنه استطاع، وعبر فنية نادرة، جريئة، مقارنة بطول العرض، أن يلعب على مستويين، الأول درامي، والثاني ما يشبه التسجيلي، دون أن يصيب المشاهد بأي ملل، كما أنه استطاع أن يحتفظ بكل خيوط الغموض، التي من الصعب أن يتوقعها المشاهد، سواء بالنسبة للشخصية التي قُتِلت -ويبدأ المسلسل بعد لحظات موتها- أو شخصية القاتل التي لا نعرفها، ليضرب المسلسل في النهاية ضربته الكبيرة، حين يكشفها، كما يحدث في عمل سيمفوني رفيع.

 

لقد تغزلت السينما، والأعمال التلفزيونية عموما بالعائلة الأمريكية، واعتبرتها أمرًا مقدّسا، وليس غريبا أن كثيرا من الأعمال المكرَّسة لهذه العائلة، تفوز بأرفع الجوائز. هكذا يأتي هذا المسلسل ليهشم تلك الأسطورة البراقة، أو الكيان الكبير الذي تنخره وتدمِّره الأكاذيب.

 

إن هشاشة تلك الأُسَر التي تنعم بجنة الطبيعة والثراء والشهرة والنجاح تظهر هنا مأساوية بقدر ما هي ساخرة إلى حدّ لا يصدق، فالأحداث تُبنى كلها على التواء كاحل إحدى بطلات المسلسل الأربع، وتَعرُّفها إلى امرأة انتقلت للعيش في تلك الجنة، حديثا، ثم ما تلبث الأحداث أن تصبح أسيرة خط درامي مرعب، مدمِّر، بسبب ادعاء الطفلة، أمابيلا، ذات السنوات الست، بأن زيغي زميلها في الصف الأول الإبتدائي، وفي اليوم الأول من الدراسة، أمسك بعنقها. انهيار عالم القوة والجمال كله، لسبب كهذا، أمر في غاية السخرية، لأن تلك الحادثة تتحوّل إلى كرة من ثلج، تجرف الجميع، إن لم نقل تسحقهم في طريقها، قبل أن تظهر الحقيقة.

 

قد يبدو المسلسل للمشاهد في البداية، خفيفا، باتكائه على تفاصيل يومية غاية في العادية، ويمكن أن تحدث في أي مكان، فما الذي يعنيه شجار صغيرين للدراما، وعظمتها؟! ما الذي يعنيه مقارنة بهذه الأحداث الكبرى والحروب التي تعصف بكوكبنا، والرياح المجنونة التي تهبّ عليه؟! إنها في الحقيقة لا شيء، ولعل هذه هي قيمتها الكبرى، لأن هذا اللاشيء، هو الذي سيحطم في النهاية، ويُعري عالما كاملا فتننا منذ اللقطة الأولى، عالما تمّ تعزيزه بأربع نجمات من نجمات الصف الأول، سينمائيّا، على رأسهن نيكول كيدمان، وستلتحق بالمسلسل، بعد نجاحه، ليغدو مسلسلا طويلا ميريل ستريب.

 

مسلسل
مسلسل "أكاذيب صغيرة.. كبيرة" الذي فاز حتى الآن بتسع وعشرين جائزة دولية، فاز بجائزة غولدن غلوب لأفضل ممثلة، كيدمان، وأفضل ممثلة مساعدة، لاورا درن، والممثل ألكسندر سكارسكارد
 

أهمية هذا المسلسل القصير، الذي يبدو كفيلم طويل مُحكم، تكمن أيضا في كثافته، بعيدا عن منطق السوق الذي حول كثيرا من المسلسلات إلى أنهار من الحلقات، أو المواسم التي لا نهاية لها. إنه يعيد للتلفزيون رصانته بفنيته العالية، وشخصياته المحتشدة بالتناقضات، وقدرته على الكشف عن الخلل المقيم تحت الثياب البراقة والوجوه المبتسمة، والعالم المتآكل الذي لم تعد القيم الكبرى قادرة على وقف فيضان تهالكه، وهو فوق ذلك، مسلسل لم يُطبخ وفق وصفات التسلية، فما إن ينتهي، حتى يبدأ من جديد في عقل المشاهد ثانية، وبصورة أقوى من المشاهدة الأولى، بعد أن تتجمع أجزاؤه مع نهاية لقطة الختام.

 

مسلسل "أكاذيب صغيرة.. كبيرة" الذي فاز حتى الآن بتسع وعشرين جائزة دولية، فاز بجائزة غولدن غلوب لأفضل ممثلة، كيدمان، وأفضل ممثلة مساعدة، لاورا درن، والممثل ألكسندر سكارسكارد، وهو الفوز الثاني للأخير بعد جائزة أيمي، وقد لعب دور الزوج العنيف لكيدمان ببراعة استثنائية. لا يعرف المرء ما هي المقاييس الدقيقة التي أهّلت من فازوا للفوز، عن أدوارهم في هذا العمل، لكن الأمر المؤكّد أن بطلات العمل الأربع، كنَّ على درجة عالية من الإبداع، بحيث تستحق كل واحدة منهن جوائز كثيرة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.