شعار قسم مدونات

مراجعات "استثمارية" في العمل الخيري

Blogs- charity
لا يمكننا بعد عشرات السنين من العمل الخيري العربي والإسلامي المؤسسي والمنظم أن نغض الطرف بحال عن مشكلات بدأ العمل الخيري بها مذ كان معتمدا على الأفراد والشخصنة، وما زال يعيش بها رغم وجود كيانات ضخمة وكبيرة! عشرات السنين لم تفلح في الانتباه لهذه المشاكل، ولم تشفع في حلها أو تجاوزها! إن المراجعات المطلوبة في العمل الخيري كثيرة وكبيرة، منها الخارجي كتحديات الإغلاق والوصم بتمويل الإرهاب، ومنها الداخلي كالمرتبطة بالجوانب التنظيمية والقانونية لها، ومواقف الأنظمة وتوجهاتها. إلا أن أبرز هذه المشكلات التي تحتاج إلى مراجعة هي المشكلة الاستثمارية والتسويقية.

فإذا كان عدد المؤسسات العربية والإسلامية التي تقوم بالأعمال الخيرية قد تجاوز الخمسمائة مؤسسة، وهي التي تقوم بأعمالها الخيرية في أكثر من أربعين دولة، ويبلغ ما تصرفه في هذه الأعمال سنويا حوالي مائتي مليون دولار، إذا كان كل ذلك فإننا ندرك حجم حاجة هذه المؤسسات إلى المراجعة الاستثمارية كي تحقق أكبر قدر من النجاح في أعمالها. يضاف إلى كل ذلك الحملة الأمريكية الصريحة والشرسة ضد هذه المؤسسات، والتي جعلت هدفها تجميد ما يزيد عن مائتين واثني عشر مليون دولار من أموال هذه المؤسسات ومراقبتها وتشديد الخناق عليها، وفق خطة مساعد وزير المالية الأمريكية للشؤون التنفيذية إبان إدارة أوباما "جيمي جورولي" لتجفيف منابع الإرهاب بزعمهم.

حين نعلم كل هذه المعلومات ندرك مدى حاجة المؤسسات الخيرية العربية والإسلامية إلى المراجعة الاستثمارية؛ فالزمن "عشرات السنين" يطلب هذه المراجعة الاستثمارية، والعدد "أكثر من 500 مؤسسة" يحتاج هذه المراجعة الاستثمارية، والانتشار "أكثر من 40 دولة" يفرض هذه المراجعة الاستثمارية، وإجمالي المصروفات السنوية "أكثر من 200 مليون دولار" يُلزِم بهذه المراجعة الاستثمارية، وأخيرا حجم تلكم الحرب الأمريكية والعالمية الشرسة على هذه المؤسسات لا يترك فرصة للتهاون في هذه المراجعة الاستثمارية.

وهذه المراجعة الاستثمارية هي التي سأقدم فيها هذه الكلمات:
رغم انتشار المؤسسات الخيرية العربية والإسلامية في أصقاع العالم، ورغم تزايد حجم مصروفاتها بطريقة مضاعفة خصوصا ابتداء من أوائل الثمانينيات، إلا أن التبرعات ما زالت الطريق الأوحد تقريبا لحصول هذه المؤسسات على التمويل، وما زالت عقلية "الزكاة والصدقات" هي السائدة لدى إدارات هذه المؤسسات. إن عقلية التسويق واستثمار الأموال ما زالت بعيدة تماما عن أذهان هؤلاء، وهذا ما أدى بشكل واضح إلى عدة نتائج سلبية منها:

كل ما على المؤسسات الخيرية هو أن تدرك أنها في حاجة ماسة إلى الفكر التسويقي الاستثماري، وأن توجد في داخلها كيانات لأجل تحقيق هذا، وأن تستعين بكوادر متخصصة في هذا المجال

إغلاق عدد كبير من هذه المؤسسات أو تقليص أعمالها، وعدم استكمال كم كبير من المشروعات، وعدم الاستمرار في أعمال من صفتها الديمومة. هذه النتائج وغيرها هي ثمرات غياب الفكر التمويلي الذي يعتمد التسويق والاستثمار أساسا لا التبرعات والهبات. لست ضد بقاء التبرعات والزكوات والصدقات، فهذه أبواب خير وبركة لا يمكن أن تُقفل، لكن ما أدعو إليه هو استكمال هذه الأبواب بأبواب الاستثمار والتسويق، وما أقوله ليس بدعا ولا استحداثا؛ وإنما هو فكر له أصله الثابت في ديننا وتاريخنا، هذا الأصل هو "الوقف"؛ فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "أصاب عمر بخيبر أرضا، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أصبت أرضا، لم أصب مالا قط أنفس منه؛ فكيف تأمرني به؟ قال: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها، فتصدق عمر: أنه لا يباع أصلها، ولا يوهب، ولا يورث، في الفقراء، والقربى، والرقاب، وفي سبيل الله، والضيف، وابن السبيل، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، أو يطعم صديقا غير متمول فيه" متفق عليه.

كما يدخل الوقف في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" رواه مسلم. وقد كان للأوقاف دور كبير في الحياة الاجتماعية إبان مراحل الدولة الإسلامية بمختلف اتجاهاتها، فشملت الأوقاف كفالة الأيتام، ورعاية العجزة والمحتاجين، وفك أسر المأسورين، وسداد الدين عن المدينين، وغير ذلك كثير، فالوقف ما هو في الحقيقة إلا نوع من أنواع الاستثمار. ولتفصيل الحديث عن الوقف يمكن الرجوع إلى ما كُتب حول ذلك، وهو كثير. هذا مثال على صعيد الاستثمار، أما على صعيد التسويق فالأمثلة كثيرة؛ منها تسويق الأفكار، ومنها تسويق المشاريع والبرامج، ومنها تسويق الأعمال، وغير ذلك.

كل ما على المؤسسات الخيرية هو أن تدرك أنها في حاجة ماسة إلى الفكر التسويقي الاستثماري. أن توجد في داخلها كيانات لأجل تحقيق هذا، وأن تستعين بكوادر متخصصة في هذا المجال. أن تنقل المتبرع من مجرد كونه "متبرعا" إلى أن يصبح "عميلا" أو "زبونا" تجتذبه أعمال الخير التسويقية كي يشارك ويساهم. وغنيّ عن الذكر القول إن تغير المتبرع إلى عميل يسمح بتواجد عملاء آخرين لم يكن يجتذبهم أن يكونوا مجرد متبرعين.

إن المراجعة الاستثمارية في العمل الخيري أصبحت بدّا لا مناص منه، وضرورة لا يمكن التنازل عنها. إنها الباب المغلق الذي حان دور فتحه الآن ليعالج معظم مشكلات العمل الخير، إنها الأسباب التي أمرنا ديننا بالأخذ بها مع احتفاظنا بتوكلنا على الله تعالى. هناك العديد من الأفكار والبرامج التسويقية والاستثمارية التي يمكن أن توضع في هذا السياق، والحديث في هذا يطول، لكن حسبي من الاستدلال الإثبات، ومعرفة المشكلة وحجمها فرع من طرق علاجها. إنها كلمات في المراجعة الاستثمارية للعمل الخيري.. كلمات ستبقى كلمات طالما لم تصلها آليات التفعيل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.