شعار قسم مدونات

مهزلة السينما الحديثة

blogs - theatre
ما بين خمسينيات وأواخر القرن الماضي، كانت السينما العالمية في أوجها، والأعمال الخالدة في تلك الفترة شاهدة على ذلك، أفلام ذات مستوى عال من الإبداع وتوفق الممثلين في أدائهم، بل حتى القصص كانت تحمل بين طياتها نوعا من الدروس والعبر المهمة .. كان هذا عصر السينما الذهبي. فماذا عن سينما اليوم؟

  

أصبح البحث عن فيلم لائق شبيها بالبحث عن فيلم غير لائق في الفترة التي سبق الحديث عنها. صارت السينما تجارية، يتم إخراج الأعمال التي تدر أموالا، والقصص العظيمة يتم تجاهل إخراجها. هل لاحظت يوما الأفلام المنتشرة في قاعات العرض في الفترة الأخيرة؟ نصفها لأبطال خارقين يغيب عنها الحس الابداعي والعمق في الحوار وجودة التمثيل، والنصف الآخر درامات رديئة لفئة العشاق من رواد السينما.

    

وبين هذا وذاك يموت فن السينما، فقد تم استبدال أداء الممثلين العالي بالمؤثرات الخاصة، كما تم استبدال الحبكة المتينة بالمؤثرات الخاصة أيضا، التي حلت محل الفيلم بصفة عامة، ونادرا ما ترى فيلما تغيب فيه الانفجارات والموسيقى التصويرية الصاخبة، وإن دل هذا على شيء فهو احتضار السينما العالمية، فهل من منقذ لها؟

   

كريستوفر نولان، المخرج المبدع وقع في الخطأ نفسه، فبداياته كانت خارقة بفيلم "memento" و " insomnia"، بل وثلاثية الرجل الخفاش أيضا خرجت من إطار العبثية بفضله وصارت قصة إنسانية، و بعض أفلام أخرى، لكن فيلمه الأخير حول الحرب العالمية الثانية في نقطة "dunkirk" كان نقطة سوداء حاول بها أن ينافس ستيفن سبيلبورغ، بل إن هذا الأخير بعينه تحولت إنتاجاته الغزيرة الى نوع من الخطأ، وسكورسيزي يبقى متأرجحا تارة بين عمل يكون جيدا وآخر رديئا.

   

ممثلون كلاسيكيون مثل بول نيومان و همفري بوغارت، لا يغامرون بسمعتهم في أدوار تافهة، بل يضعون أنفسهم في أفضل مكان ليصنعوا أعظم الأفلام. بالطبع الأعداد متواضعة، لكن أداءهم جعلها أعمالا خالدة
ممثلون كلاسيكيون مثل بول نيومان و همفري بوغارت، لا يغامرون بسمعتهم في أدوار تافهة، بل يضعون أنفسهم في أفضل مكان ليصنعوا أعظم الأفلام. بالطبع الأعداد متواضعة، لكن أداءهم جعلها أعمالا خالدة
      

نيكولاس كيدج باع روحه للشيطان مثلما حدث في أفلامه الأخيرة، بعد أن كان من أهم ممثلي هوليوود، صار أضحوكة بينهم، وديكابريو لا يعرف أين يضع قدمه وشبح الأوسكار يحوم من حوله، وهو الأمر الذي يحصل مع ويل سميث وجوني ديب، ففي الوقت الذي يختار فيه الممثل الدور الذي يليق به كشخص أولا قبل ممثل، يقبل هؤلاء بأي دور قد يجذب النقاد إليهم.

   

فمثلا دانيال داي لويس، الممثل العظيم، قدم مجموعة من الأفلام المهمة وانصرف دون أن يترك نقطة سوداء في سجله الإبداعي، حصد الكثير من الجوائز، من بينها أوسكارات، وترك مكانه نظيفا. هذا الذي لم يستوعبه ممثلون كروبير دينيرو وآل باتشينو، فقدوا موهبتهم مع تقدمهم في السن، لكنهم لم يتركوا الكاميرا وشأنها.

ممثلون كلاسيكيون مثل بول نيومان وهمفري بوغارت، لا يغامرون بسمعتهم في أدوار تافهة، بل يضعون أنفسهم في أفضل مكان ليصنعوا أعظم الأفلام. بالطبع الأعداد متواضعة، لكن أداءهم جعلها أعمالا خالدة، وهذا بالضبط ما لا يفهمه العالم الفني، فالأمر غير متعلق بالكم، بل بالجودة أساسا، لكن من ساهم في انتشار هذه المعضلة أساسا -والحق يقال- هم المشاهدون، فالسينما تجارة في حد ذاتها، والمشاهد يشتري تذكرة مشاهدة فيلم تافه حول بطل خارق يحمل مطرقة، ويترك توم هانكس لوحده في القاعة المجاورة.

  

لا تهمهم القصص الإنسانية بقدر ما يهمهم الصخب والعنف والموسيقى المزعجة .. هذا ليس من علامات الساعة، بل من علامات احتضار تراث إنساني، فبعد سنوات من الآن، بعد جيل أو جيلين، لا أتوقع صدور شيء في قاعات السينما غير أفلام الأكشن النمطية، والرومانسية الرديئة من أجل إفراغ جيوب العشاق، ولأول مرة في حياتي أتمنى أن أكون مخطئا..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.