شعار قسم مدونات

لصوص الأدب

BLOGS مكتبة

تعج المحاكم العربية بقضايا السرقة، لا تكاد تخلو الجلسات من سارق ومسروق، بين العقار والمنقول تختلف العقوبات، لكن في مسلسل التحقيقات تتشابه القصص، حتى يُخيل لك أنهم يتخرجون من مدرسة الأعذار الجاهزة، لم أجد أكلا، أمي مريضة بالسكري، أبي على فراش الموت، ابني مصاب بالسرطان، قصص تدخلك دهاليز التعاطف، تلامس قلبك، تبكيك أحيانا، فمخرجها ومنفذها، يجيد التمثيل في أقسام الشرطة، وتلك هي مهنته منذ تعلم مد يده، وكثيرا ما يتخلى المجني عليه في متابعة الجاني بعد حلقة من الدراما المركزة.

السرقة أنواع أخطرها السرقة الأدبية، سرقة لا نكاد نسمع عنها، عدد القضايا في البلد الواحد لا تكاد تتعدى أصابع اليد الواحدة، يهملها القانون، ويتقشف في تفصيلها المشرع، ويسكت عنها المجني عليه، خلال دراستي للمحاماة لم أصطدم بهذه النوعية من القضايا، ظلت دراستنا الميدانية محصورة بين الملايين والهكتارات، إلى آخر فصل، رجل طاعن في الأدب، يرفع قضية ضد شاب سرق بحثا طويلا، كلفه انحناء ظهره، وغزو الأبيض سواد شعره، احتقر أحد المتربصين طلبه فرد قائلا: لو سرق مالي لعفوت عنه، لكنه سرق أفكاري، ولن أسمح لأحدهم بذلك حتى لو كلفني الأمر في نقل إقامتي متجولا بين المحاكم.

 

يحوز المتسلقون في الأدب على دليل استعمال عندما يلقى القبض عليهم في موضع سرقة،  فيعللون السطو على النصوص هياما في الكاتب، وإعجابا به

لم تكن السرقة الأدبية وليدة عصرنا، بل كان لها في العصر الجاهلي لصوص يجيدونها، فلم يسلم الشعر والنثر من سرقة اللفظ، أو المعنى، وأحيانا اللفظ والمعنى معا، وكان يعتبر الشعراء ذلك منقصة للشاعر حين قال الأعشى: فكيف أنا وانتحالي القوافي بعد المشيبِ كفى ذاك عارا، لكنها غزت عصرنا وهذا راجع إلى التطور التكنولوجي الذي سهل الأمر، وبسطه، بعد أن ابتلي البشر بخاصية النسخ واللصق، وحذف نسب صاحبه.

الأدباء في قبورهم يتبرؤون، ولو كانوا أحياء لرجمونا بالحروف التي نسبناها إليهم، فمقولة واحدة يتقاسمها عشرات الكتاب، تجدها في الفايسبوك تنسب لنزار قباني، وفي التويتر لمحمود درويش، وفي أنستغرام لغسان كنفاني، ويضيع صاحبها بين ناقل لم يأت بمصدرها، أو معجب فقد بصيرته، وأحيانا تكون لكاتب مغمور أراد أن يصعد إلى سلم الشهرة فوق قبر من حجر، ولسان غمره التراب، تأكد مسبقا غياب جهة الدفاع، متملصا من المساءلة الفكرية. 

يحوز المتسلقون في الأدب على دليل استعمال عندما يلقى القبض عليهم في موضع سرقة، فيعللون السطو على النصوص هياما في الكاتب، وإعجابا به، وهنا يجد الكاتب نفسه في مواجهة تافهة مع معجب مراهق يشبه تماما أولئك الذين يغمى عليهم في حفلات الفنانين، فيكبل الحب يديه، ويجمد كل تحركاته القانونية، فشفاعة المحب تقف حائلا أمام جره للقضاء، هنا يمكن للكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي أن تجر نصف المعجبات بها إلى المحاكم آخرها الكاتبة الخليجية روان بن حسين بعد صدور كتابها "كما لم تحب امرأة". 

– يبررون السرقة بتوارد الخواطر، وأن الكلمات بحر يجوز لكل رامي قلم الغوص في حبره، واصطياد المعاني، لكن تضيع شباكهم، وتخترق الحدود العقلية، فتسرق ما وجدته عند الآخر من معنى، يغيرون المرادفات ليتنصلوا من التهم، فتضيع النصوص المتشابهة، ويهوى ميزان الكلمة غير فارض لقيمته الأدبية، فيتكئون على قول أبو عمرو بن العلاء "تلك عقول الرجال توافت على ألسنتهم ".

النجاح طريقه شاق وطويل، تتخلله الكثير من الأشواك والعراقيل، لكن أثره باق في الأذهان، حلاوة بلوغه لا يمكنها أن تغادر الإنسان، طيب مروره بين الناس، وشهادة تبقيه حيا حتى بعد الممات
النجاح طريقه شاق وطويل، تتخلله الكثير من الأشواك والعراقيل، لكن أثره باق في الأذهان، حلاوة بلوغه لا يمكنها أن تغادر الإنسان، طيب مروره بين الناس، وشهادة تبقيه حيا حتى بعد الممات
 

أن يسقط المعجب في قاع السرقة قد نجد له في الحب عذرا، وأن تتشابك الأفكار وتتوارد الخواطر يمكن للتشابه أن يصنع ريقا نبلع به الغصة، لكن أن يُسرق اللفظ والمعنى معا، أن يُستباح النص بفواصله، ونقاطه، أن تُردد الأقوال والأمثلة المستشهد بها، تلك هي الجهالة التي أعيت من يداويها، وهذا ما فعله الداعية الأردني المجنس وسيم يوسف، حين نسخ 40 مقالة للكاتب الفلسطيني المتألق أدهم الشرقاوي عبر جريدة الوطن القطري، وصنع منها برنامجا تلفزيونيا في قناة إماراتية سماه من رحيق الإيمان، فكان رحيقا للسرقات.

كيف للموعظة أن تبلغ مقام القلوب، وهي مشبعة بعرق أحدهم، كيف يعول هذا الداعية على النصح والإرشاد الذي يوجه للشباب، ولسان كلامه يحمل رائحة حبر لكاتب شاب، كيف ندعو الناس للصدق والإخلاص، ونحن نقترف أبشع الجرائم أمام الملأ بوجه لا يكاد يخالجه نوع من الخجل، وبضمير لم يهز سوطه وهو يجهش على المقالات الأسبوعية، ناهشا منها تارة، وملتهمها تارة أخرى، أي دين هذا الذي تتحدث باسمه وأنت تقترف الجرم بحقه، وأي فضيلة تنادي بها، وأنت المدنس بخطيئة تعترف بها لكنك تكابر في الاعتذار عنها، وأي شهرة تتفاخر بها، وجلها أكل من لحم البشر، وقص للعبارات من هنا وهناك، إنه لعمل متعب، أن تترقب ولادة المولود، حتى تتحرى في الظلام لسرقته، فماذا سيكون عنوان حلقتك القادمة لو أضربت الأقلام عن الإنجاب؟ 

النجاح طريقه شاق وطويل، تتخلله الكثير من الأشواك والعراقيل، لكن أثره باق في الأذهان، حلاوة بلوغه لا يمكنها أن تغادر الإنسان، طيب مروره بين الناس، وشهادة تبقيه حيا حتى بعد الممات، أما لصوص الأدب يحدث أن يحالفهم الحظ فيلمعون كعملة نقدية ظنناها ذهبا في الظلام، فما كانت إلا قطعة حديدية عندما بزغ الفجر، يكشفهم الله من حيث لا يعلمون، يرفعهم لمراتب الغرور، ويسقطهم من بروج الكبر، فيعودون أقزاما بين قومهم، لأنهم مذ خلقوا كانوا صغار العقل، محدودي الفكر، في قلوبهم مرض، فزادهم الله مرضا. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.