شعار قسم مدونات

جيل المشاعر الإلكترونية والمعلّبة.. هل ينتج علماء وعباقرة؟

blogs - phone
وأنت تتبع سير العظماء، أو تقرأ في تراجم الأعلام سواء في الفكر أو في الفلسفة أو الطب أو مختلف العلوم، تلاحظ أن الإبداع والعظمة وكسر أفق التوقعات وخرق المعقولات، عادة أو في الأغلب ما يرتبط بالمعاناة والألم الذي قاساه هؤلاء الأشخاص عبر مراحل حياتهم من الطفولة حتى الشهرة والانتشار والوصول للقمة، بل أن هناك حتى من ماتوا في صمت ولم يعرفهم أحد ولم يطلع على إرثهم إلا مؤخرا، وهو أمر لم يقتصر على العظماء والمفكرين فقط، بل هي ظاهرة كثيرا ما اقترنت بالأنبياء والمرسلين والمصطفين ليحملوا تلك الرسالات الدينية للناس، ليس هذا فقط فحتى وأنت تتحاور مع كهل أو شيخ اليوم، ستمل حديثه من كثر تعداده للمآسي والصعاب التي عاشوها وكانت تعترضهم قديما، ثم تأتيك تلك الجملة الكلاسيكية -ورغم هذا نجحنا في حياتنا-، فلا يوجد شاب اليوم لم يقص عليه أبوه أو جده تلك القصص البطولية من مثال السير لكيلومترات للوصول للمدارس والمستشفيات، أو سهر الليل في الدراسة على ضوء القناديل الخافتة والشموع المحدودة، والطرق الغير معبدة، وشروط الحياة التي كانت منعدمة وغيرها…
     
لم أقم بتعداد هذا كله للطعن في حكاياتهم أو الاستخفاف منهم ومن معاناتهم، فقط أردت أن أعرف ما محلنا من الإعراب من كل هذا، وهل يجب أن نعاني حتى نواصل مسيرتهم ونتم إنجازاتهم هذا إذا اعتبرنا أنهم حققوا شيئا من الأصل ، فالتقييم العام للإنتاج الاجتماعي منذ فترة ما بعد الاستقلال إلى يومنا ليس إيجابيا، بل سلبيا في أغلبه وهم يعترفون بذلك في كثير من الأحيان.
    

الخطأ الجسيم الذي ألومه على أساتذتنا سواء في الحياة أو في تعليمنا الأكاديمي، هو عدم اقتناعهم من أن الفاشل لا يورث إلا الفشل، وأن البحر الهادئ لا يصنع سباحا ماهرا

فكون مجتمعاتنا كانت ريفية حتى وقت متأخر من الزمن هذا مما لاشك فيه، خصوصا إذا قارنا المستوى المعيشي وقتها، بالطفرات التكنولوجية والرقمية التي شهدتها الإنسانية في العقود الثلاثة الأخيرة، وإن كانت متوقعة، فلماذا يصر آباءنا وأجدادنا أننا جيل الكسل والخمول واللامبالاة، أو نحن على عكسهم فهم إن كانوا يحسنون الكلام بدون فعل، فنحن لا نحسن الاثنين، ما ذنبنا إن كنا قد ولدنا في عصر السهولة واليسر، ما ذنبنا إذ أننا لم نسر سوى خطوات معدودة للوصول لأقسامنا ومعاهدنا، ما ذنبنا أننا ولدنا في زمن وسائل النقل واختصار الزمن والجهد، ما ذنبنا أننا ولدنا في عصر المعلومة السهلة والمتوفرة في كل مكان، ألم تقضي الأجيال السابقة حياتها لتصل لهذه النتائج، من المسؤول عما يحصل، هل الطبيب الذي اخترع الدواء أم المريض الذي لم يحسن استعماله، ألسنا نحن في حد ذاتنا، نتاج من نتاجاتهم، فلماذا يتبرؤون وينكرون معرفتهم وعلاقتهم بهذا الطفل المشوه، أخلاقيا وفكريا وعلميا وعمليا وهو من صلبهم، كل هذا شيء، وتعداد هذه الصفات يوميا شيء آخر.

       
فبالرغم أنه دائما ما يتجلى لنا في مختلف العصور الصراع بين جيل الشيوخ وجيل الشباب على حد تعبير طه حسين، إلا أن الصراع لم يعد بنفس الوسائل، فالأجيال الأولى من عصر النهضة وما تلاها كان صراعهم فكرا حقا، صراع مشاريع وأفكار و رؤى. أما اليوم فحين ينعتك كهل أو شيخ بتلك النعوت التي تعودنا على سماعها يوميا مثل جيل تافه ساذج، لا يتقن إلا الميوعة والتقعر في الحديث، تدرك بعد أن يسكت عنك الغضب أنهم على قدر كبير من الصحة، لكننا نفضل أن يختصروا أطروحاتهم التي يلقنوننا إياها يوميا بقولهم: جيل اللا أمل.
     
فالخطأ الجسيم الذي ألومه على أساتذتنا سواء في الحياة أو في تعليمنا الأكاديمي هو عدم اقتناعهم من أن الفاشل لا يورث إلا الفشل وأن البحر الهادئ لا يصنع سباحا ماهرا، فأفلاطون بتأكيد لن يأتي بعده إلا تلميذا كأرسطو، والخليل حتما سيقدم للعالم سيبويه، وأبو تمام لن يخلفه إلا شاعرا بحجم البحتري، وجنيت لن يستثمر علومه إلا في عقل كعقل تودوروف، لذلك حين تقطع الأميال لتحضر محاضرة في جامعتنا وعند وصولك تندهش حين ترى أن أكبر جهد قام به أستاذك هو فتح حاسوبه والشروع في إملاء حرفي للمعلومات، عندها فقط تدرك حجم المعضلة، فالمسؤولية مشتركة بيننا ليست منا وحدنا، لأنكم علمتمونا أن العلم يورث، والكفاءات والخبرات تورث، لمن هو أهل لها فقط، ليس لأبناء نسلكم، فالجميع يتباكى لما تعرفه مجتمعاتنا من بيروقراطية ومحسوبية، وتجد الجميع في نفس الوقت لا يتزحزح من منصبه الاجتماعي والبيداغوجي إلا لمن هم من نسله حتى لو كان كمثل من حمل التوراة ثم لم يحملها، لذلك فمعابيركم في الحكم علينا كجيل فاشل، سقطت في الماء يا سادة، فنحن فاشلون مع استثناءات طبعا، تتحكم فيها معايير أخرى، لأنه لم تكن يوما المقاربة بالكفاءات هي التي تضع الشخص المناسب في المكان المناسب، بل أن المعيار الوحيد هو المصلحة والبرغماتية والأنانية، فحين تتخلون عن كل هذا، عندها فقط يمكن لجيل المشاعر الإلكترونية والأحاسيس المعلبة أن ينتج علماء ومفكرين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.