شعار قسم مدونات

العروش تربّعت فيها حتّى القِرَدة

blogs - رواية

صباح هذا اليوم – كنتُ لا أزال في دمشق – نزلتُ إلى مطعم الفندق تناولت الفطور… وخرجتُ إلى سوق (الحميديّة) تسوّقتُ هناك واشتريتُ بعض الحاجات لزهراء وفاطمة والحسن… دلفتُ تلقائيًّا إلى المسجد الأمويّ فوجدتُه يعجّ بالشّيعة، هالَني المنظر لأوّل وَهْلة… بدأتُ أصوّر حلقات الشّيعة الّتي تنتشر عبر مساحة المسجد كلّه… كان هناك ما يقرب من عشر حَلَقات… كلّ حلقة تضمّ مجموعة من الرّجال والنّساء، يُقدّر عددها بثلاثين رجلاً وامرأة… أمامها قائد الأوركسترا؛ هذا القائد يبدأ بتلاوة بعض أَوْرَادِهم وجميعها كانت باللّغة الفارسيّة، وبالطّبع لم أفهم مِمّا قيل شيئًا… وكانت الحلقة برجالها ونسائها تردّد وراءه ما يتغنّى أو يَنْحِبُ به.. نصف العدد من كلّ حلقة يبكي وينشج بصوتٍ مسموع طَوال الوقت… وكان القائد يصيح أحيانًا بنشيد أسطوريّ لم أعِ منه إلاّ كلمة واحدة هي: حُسين. وكان لهذه الكلمة تأثير السّحر في نفوس الجالسين، فما إنْ ينطق بها حتّى تتعالى الأصوات معًا بتردادها ويعلو معها النّشيج والنّحيب… رِحَم الله الحسين بكى عليه النّاس إلى اليوم في حين قال الرّسول صلّى الله عليه وسلّم عن حمزة بعد أن استُشهِد في معركة أحد: ولكنّ حمزةَ لا بواكيَ له..

 

واصلتُ تصويرَ طُقوسِهم؛ كان القائد في بعض الأحيان يغنّي، وأحيانا يذكر جملة يُتَوِّجُها بلفظ: الحسين، فتردّد الحناجر من ورائه بإيقاع منتظم ورتيب ومرعب في آنٍ معًا: يا حُسين.. يا حُسين.. في نهاية الحلقة يقوم قائد الأوركسترا بالجلوس مثل بقيّة الأفراد، ويُشير إلى رجلٍ مُعَمّمٍ هناك لكي يبدأ بالدّعاء، وطبعًا لم أفهم من دعائهم شيئًا.. إلاّ ما رشح منها فيما يتعلّق بالأسماء؛ فقد ورد في تضاعيف هذه الأدعية أسماء معروفةٌ لدينا، مثل: محمّد، عليّ، فاطمة، الحسن، الحسين..

 

تجد الكُوني مُغرَمًا بإثقال رواياته بالحِكَم التّي يصوغها مِمّا ثَقِفَه، ومِمّا يراه هو كذلك، لكنّه يتفنّن في لَيّ الكلمات حتّى تجيء على هيئة حِكمة

خرجتُ بعد هذا التّطواف في المسجد إلى سوق (الحميديّة) مرّة أخرى… أكملتُ شراء الحاجيّات، وانطلقتُ عائدًا إلى الفندق، كان بعض الإخوة ينتظرني هناك ليُقِلَّني إلى الكراجات للانطلاق إلى عمّان، وهذا ما حدث فعلاً. وجدتُ سيّارة كأنّما كانت تنتظرني، فلم تكن تحتاج إلاّ إلى راكبٍ واحدٍ… انطلقنا… وفي الثالثة تقريبًا كنّا على الحدود السّوريّة… لم يحدث شيءٌ ذو بال… وما إن أعطيتُ جواز سفري للمسؤول على الحدود الأردنيّة حتى كانت عيناه تُحَمْلِقان في جهاز الحاسوب كالعادة في مثل هذا الموقف… قال لي: انتظر قليلاً… هناك بعض الإجراءات… كنتُ أعرف أنّ الأمر في العودة والدّخول إلى الأردنّ سيكون أكثر صعوبة… فهذا الشيء حدث معي في السّنة الأخيرة كثيرًا… بل كان يحدث في كلّ سفرٍ لي خارج الأردنّ..

 

الأسئلة المَمْجوجة الّتي حفظتُها عن ظهر قلب في كلّ رحلة: أينَ كنتَ؟ وماذا تعمل؟ ومَنْ دعاك إلى الذّهاب؟ وكم أقمتَ؟ وهل تسافر كثيرًا إلى دمشق؟ وما الجهات الّتي زُرْتَها في سوريّة؟ وغيرها من الأسئلة.. بعد الإجابات المقتضبة من قائمة الأسئلة الطّويلة، يبدأ التّفتيش في أغراضي، يُنزِلون كلّ شيءٍ، ويفتّشون في كلّ مليمتر، ويأخذون عادةً الكتب. ذات مرّة حملتُ لهم في تضاعيف الكتب الّتي أحملها ديوانَ محمود درويش، على الحدود سألتهم: إنْ كان هذا الدّيوان ممنوعًا؟ أجابني الّذي انحنى وهو يُبَعثِر أغراضي خارج الحقيبة بثقة واستخفاف معًا: لا… هذا الدّيوان موجود في الأسواق!

       

بعد كلّ التّفتيشات، والأسئلة المُمِضّة، قال لي ضابط المخابرات: أهكذا هي حال المثقّفين؟ قلتُ له: هذا السّؤال أحرى أن يُوجَّه إليك لا إليّ! بعد ذلك ختموا لي الجواز، وانطلقنا. كان صاحب السّيارة والسّيدتَيْن الرّاكبتين قد أخذتهم الدّهشة مِمّا جرى، ولم يتعوّدوا أن يواجهوا – ربّما – موقفًا مُماثلاً.

 

في الخامسة عند المغرب كانت السّيارة قد وصلتْ إلى عمّان… وكنتُ أنا قد أجهزتُ على رواية: (يعقوب وأبناؤه) لإبراهيم الكوني.. هنا – ما قصدْته من وراء هذا السّرد – سأتحدّث لكم عن رواية: (يعقوب وأبناؤه). الرّواية تتكوّن من (256) صفحة، ونَشَرَتْها المؤسّسةُ العربيّة للدّراسات والنّشر، في طبعتها الأولى عام 2007م. تتكوّن الرّواية من ثلاثة أقسام، وتتحدّث عن الباشا وأبنائه الثلاثة: الكبير: حسن، والأوسط: أحمد، والأصغر: يوسف. وقد أتقن الكاتب وصف ما يدور في البلاط، وعند الأُسَر الحاكمة، من مؤامرات وإشاعات وعداوات وموازين قُوى، وقد استعار لذلك لغةً جميلة غير أنّه على عادته يقع في عدد كبيرٍ من الأخطاء اللغويّة والنّحْويّة لا يُستهان بها.

       

الأمّة اليهوديّة يجب ألاّ تستقرّ؛ لأنّ الاستقرار يعني الموت والفناء والاندثار… وأنّ الشّعب اليهوديّ خُلِقَ ليظلّ مهاجرًا ومتنقّلاً

وعلى ما درج عليه في معظم رواياته، تجد الكُوني مُغرَمًا بإثقال رواياته بالحِكَم التّي يصوغها مِمّا ثَقِفَه، ومِمّا يراه هو كذلك، لكنّه يتفنّن في لَيّ الكلمات حتّى تجيء على هيئة حِكمة، وإليك طرفًا من هذه التّنميقات الّتي غرقت بها الرّواية. يقول:

 

– الجمال عندما يزيد عن الحدّ خطيئة؛ لأنّه محاكاة للرّبّ. (ص 11).

– المفاجآت علّمَتْني أنّ انتظارَها أجمل من نَيْلها دائمًا.

– العروش تربّعت فيها حتّى القِرَدة. (ص91).

– دعك من الهراء؛ لأنّك تعلم كما أعلم، أنّنا لو استجبْنا لكلّ رؤيا رأيناها في منامنا لزالت الدّنيا منذ زمن بعيد، ولَمَا تبقّى من هذا العالَم الحجر الّذي يقوم على حجر! (ص156).

– لا تحدّثيني عن الشّرع؛ لأنّ حياتكم في هذا القصر كلّها ما هي إلاّ منكر يعقبه منكر! (ص186).

– الآباء ما هم إلاّ قرابين الأبناء، لأنّ الآباء لا يأتون بهم إلى الدّنيا إلاّ ليخرجوا هم من الدّنيا. (ص226، 227).

– إنّ المتعة هي الطُّعم الّذي يستدرجنا به الخفاء كي يوقعنا في الشَّرَك. (ص 227).

– ألا ترى أنّنا لا نهلك إلا بما نكشف. (ص230).

– مَنْ يذهب إلى الحرب لا يُبدِّد ذخيرته في الهواء. (ص238، 239).

– إذا خرجْتَ في طلبِ بُغيةٍ فلا تتسكّعْ. (ص239).

 

من شخصيّات القصّة الّتي برزت في الرّواية بروزًا واضحًا شخصيّة "إستير"؛ (استفدتُ منها فيما بعدُ عندما كتبتُ رواية نفر من الجنّ) وهي إحدى محظيّات الباشا، وهي من اليهود، كان حسن الابن الأكبر يكرهها، ويحاول التّخلّص منها لأنّها كانت ذات نفوذ قويّ، وتأثير كبير على الباشا، وكان يُحاوِرُ أباه فيها، وكان أبو يقول له: أنا أعرف أنّك تكره إستير وتتمنّى موتها، فكان في البداية يُنكِرُ ذلك، في محاولةٍ منه لإخفاء مشاعره تُجاهها… ولكنّه ذات مرّة في هذه الحوارات صرّح بكرهه لها وحبّه للقضاء عليها، وسأل أباه: لماذا يُبقي على هذه العجوز الّتي وصفها ذات مرّة بأنّها ليست امرأة، بل هي بُعبع لإفزاع الخلق، وأنّها لا تمتطي بغلتها إلاّ بمعاونة ستّة عبيد؛ لأنّها كانت سمينة جدًّا…؟ أمّا أبوه فيرى أنّ الجمال غير ما يراه النّاس، وحينَ سأله ابنُه هذا السّؤال، أجابه: بأنّها يهوديّة، وطائفتها اليهوديّة أحد أعمدة البلد، فهي تنتمي إلى الطّائفة المتحكّمة بالبلاد، لكون جميع اليهود قابضون على منافذ التّجارة وبيدهم الأموال، والدّولة بدون تجارة أو مال لا شيء…

 

في نهاية الرّواية تظهر شخصيّة أحد اليهود وهو (حاييم) الّذي يطلب مقابلة الكاهنة إستير ليُخبِرها بأنّه رأى حلمًا، وفسّره على أنّه يجب الخروج من هذه البلاد؛ فالأمّة اليهوديّة يجب ألاّ تستقرّ؛ لأنّ الاستقرار يعني الموت والفناء والاندثار… وأنّ الشّعب اليهوديّ خُلِقَ ليظلّ مهاجرًا ومتنقّلاً؛ ففي ذلك حياته، وذكّرها بموسى وبأجدادها من قوم موسى كيف سُمُّوا بالعبرانيّين؛ لأنّهم عبروا النّهر، وأنّهم لم يقفوا بل كانت حياتهم قائمة على العبور، وأنّ كيانهم استقرّ بعبورهم…

 

في البداية كادت إستير تقتنع بكلامه، ثمّ بعد نقاشٍ وتفكير لم توافقه على ذلك واعتبرتْه مجنونًا؛ والسّبب أنّها توصّلتْ بتفكيرها إلى أنّها لو وافقت على فكرته المجنونة وأخرجت قومها من تلك البلاد فسوف تفقد سلطتها ونفوذها، إذ ليس أمامهم إلاّ الصّحراء والعطش والموت… ولكنّ هذا اليهوديّ تركها وصمّم على أن يؤلّب اليهود على الخروج، وخاصّة أنّ تلك البلاد كانت تمرّ بكارثة الطّاعون، ذلك القاتل الّذي جعل الجثث تنتشر على الطّرقات وفي السّاحات وفي الأزقّة، وفي البيوت دون أن يمهل أهل الميت وذويه بحفر القبور ومواراة الجثث…

 

واستطاع اليهوديّ أن يخرج ببعض اليهود… غير أنّ الباشا سارع إلى الاستغاثة بإستير كي لا يقنع المزيد من اليهود بالخروج من مدينته أو بلاده؛ ليس حبًّا بهم، ولكنْ لأنّ الأموال سوف يقلّ ورودها وتداولها في الدّولة، خاصّة بعد المجاعات الّتي توالت على بلاده في الأشهر الأخيرة، ورافقها الطّاعون… مِمّا اضطرّ الباشا في بعض الأحيان أن يبيع بعض أواني الذّهب والفضّة الزّائدة عن حاجة القصر ليُطعم عبيده وحاشيته…

 

ومن شخصيّات الرّواية: زهرة، وهي المحظيّة الثّانية لدى الباشا، وكان لا يجلس إلاّ مع هاتين المحظيّتين: إستير الكاهنة اليهوديّة، وزهرة الزّنجيّة… وكان من عجب ابن الباشا الأكبر (حسن) أن يُجالِسَ أبوه هاتين البغلتين كما وصفهما سابقًا، ووصف الزّنجيّة ذات مرّة بأنّها دُبّ… وتوصّل إلى نعت أبيه بأنّه: أعمى… غير أنّ زهرة شخصيّة كانت قليلة الحضور في الرّواية…

 

ومن الشّخصيّات كذلك: ميزلتوب، وهي ابنة إستير الكاهنة اليهوديّة، وكانت من محظيّات الابن الأصغر: يوسف، وذات مرّة طلبتْ منها أمّها أن تدبّر مكيدة لإزاحة أحمد وحسن عن الطّريق لكي يصفو الجوّ لسيّدها يوسف كي يتولّى السّلطة، ومن الطّبيعيّ إذا تولّى السّلطة بعد أبيه فستكون ميزلتوب الملكة؛ لأنّها محظيّة الملك … غير أنّ خطّتها انكشفت ولم تُفلِح … فلم تجد ميزلتوب بُدًّا من الخروج من المدينة إلى الخارج…

 

 رواية يعقوب وأبناؤه لـ
 رواية يعقوب وأبناؤه لـ "إبراهيم الكوني" (مواقع التواصل)


ويمكن تلخيص الخطوط العريضة لتوجّهات شخصيّات الأبناء الثّلاثة على النّحو الآتي:

– حسن الابن الأكبر: كان تاجرًا كبيرًا، يسيطر على تجارة البلاد، وله خصوم من التّجّار تخلّص منهم، إمّا بإفلاسهم أو بإعدامهم، وبحكم سلطته الماليّة، وكونه أكبر إخوته، فقد كان المرشّح الأوفر حظًّا، والّذي تُجمِع الأعراف على تولّيه السّلطة بعد أبيه… أمّا أبوه فبحكم سنّه، وقيادته الطّويلة للبلاد ظلّ واليًا عليه، غير أنّ كثيرًا من السّلطات الفعليّة كانت بيد الابن الأكبر حسن، مِمّا جعله يقول له: إنّني أنا الحاكم الفعليّ، وأنت فقط حاكم بالاسم… وعندما احتدم النّقاش بينهما مرّة، قال: أنا الّذي أصنع البطولات، وأثبّت أركان الدّولة، وأتعب وأخطّط، وأنت الّذي تحصد كلّ السّمعة من وراء ذلك…

 

– أحمد: الابن الأوسط، شخصيّته غائبة، أو شبه غائبة في الرّواية، تظهر بين حينٍ وآخر… بدا كأنّه قانع بسلطته القائمة على جناحه الخاص، وممتلكاته الخاصة، وحرسه الخاصّ… وقع ذات مرّة في المكيدة الّتي دبّرَتْها ميزلتوب، وكان هو وأخوه حسن يتقاتلان، فيموت أحدهما… لكنّ حسن بحكم قيادته الفعليّة للبلاد، وحكم سنّه، كان حصيفًا، فاستطاع أن يكشف المؤامرة، وينهي النّزاع بيه وبين أخيه…

 

– يوسف: الابن الأصغر، كان توّاقًا إلى السّلطة، يستشعر العداء دائمًا بينه وبين أخيه الأكبر، وفي نهاية الرّواية قام بقتل أخيه بعد تدبير مكيدة مُحكمة، أوحي بها إليه أحد مساعديه، وسوّلها في نفسه…

 

تنتهي الرواية عند قتل يوسف أخاه الأكبر حسن، وعلى القارئ أن يتخيّل ما حدث بعد ذلك، بالتّأكيد يمكن تخيّل ما يلي: موت الباشا غيظًا وحزنًا، وأن تُصاب (لِلاّ حلّومة) زوجة الباشا المُطلّقة، وأم الأبناء الثلاثة بالعمى لكثرة بكائها على قتل ابنها الأكبر بمسدّس على يد ابنها الأصغر أمام عينيها.. واعتزال أحمد السّلطة، واكتفائه بنصيبه من الإرث، ومخصّصاته من العبيد والخدم والحاشية والأموال.. واستئثار يوسف بالسّلطة زمنًا طويلاً.. ثمّ تبدأ المؤامرات من جديد، والعداوات والاغتيالات.. ويتولّى الحفيد البعيد بعد أن تولّى الابن الأصغر.. وتمرّ على الدّولة مجاعات وفتن وكوارث.. وهكذا هو حال أهل القصور وما يدور بينهم.. وقد أبدع الكوني في وصف ذلك الأمر، ففصّل أحيانًا، ولمّح أحيانًا أخرى، وترك الأمر لخيال القارئ في نهاية الرّواية.

 

سألتقيكم في روايةٍ أخرى، أو في صباحٍ آخر. أو ربّما في منفى جديد. أوطاننا لم تعدْ آمنة. وعقلي يضجّ بالأفكار، كما لو كان سماءً تكتظّ بالطّيور الجارحة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.