شعار قسم مدونات

ما بعد الاستشراق

blogs معهد الدراسات السياسية ببردو

انتظم بمعهد الدراسات السياسية ببوردو الفرنسية، أسبوع دراسي من 5 مارس إلى 9 حول قضايا تهم العالم العربي، تخللته محاضرات ألقاها مختصون من أرجاء مختلفة، من فرنسا وأوروبا والعالم العربي، وعرف تنظيم موائد مستديرة ضمّت ثلة من المختصين والمهتمين، وتوزعت المواضيع والمحاضرات ما بين حرية التعبير وقضايا الإعلام في العالم العربي، ووضع المرأة به، والأمازيغية في شمال أفريقيا، وأوضاع المدن بالعالم العربي وما تعرفه من طفرة ديمغرافية وعمرانية، والحرب في اليمن وما ترتب عنها من مآسي إنسانية، إلى علاقات بلاد المغرب وبلاد المشرق، والتوتر الدائر في الخليج جراء فرض الحصار على قطر.

 

الطريف ليس المواضيع ولا الجرأة في الطرح، ولكن المقاربة. منظمو الأسبوع العلمي ينطلقون من مقاربة غير المقاربة الاستشراقية، أي تلك التي يجريها الغرب على المجتمعات الشرقية، ويرفضون ما يسمى بالاستشراق الجديد، أي تلك المقاربة التي يجريها الشرقيون على أنفسهم من خلال رؤية الغرب. أصحاب البادرة أغلبهم غربيون ولدوا إما بفرنسا أو إيطاليا، من أصول مغاربية، يُلمون باللغة العربية، أغلبهم، ويرتبطون بارتباط ذاتي بالعالم العربي لأنهم يتحدرون منه، أو منهم من يعيش به، ويعرفون شؤونه، ويرتبطون برباط موضوعي بمواضيع الدراسة وما تفرضه من مقاربة علمية. 

 

في بوردو التقى المغربي والجزائري واستمع لبعضهم البعض، ولم يَحُل الوضع القائم بين بلديهما أن يتناقشا في هدوء واحترام بل وود

اختاروا اسما طريفا لجمعيتهم يحمل نوعا من الجناس والتورية Les désorientalistes مما يعني تغيير الاتجاه، وهو المعنى الظاهر، وكذا مناهضو المستشرقين. تشرف على الجمعية باحثة إيطالية من أصول مغربية تدرس ببوردو، هي ياسمين ويغران، تتحدث بطلاقة الفرنسية والإيطالية والإنجليزية فضلا عن العربية ولغة أجدادها الأمازيغية. تغطي شعرها بدثار، دون أن يمنعها ذلك من مصافحة الباحثين والحديث إليهم.

 

لا يخفي أصحاب البادرة تأففهم من النظرة الاستعلائية للاستشراق، مثلما يقفون على ضحالته الحالية، ويأسون لوضع المستشرقين الذين لم يعودوا يحسنون اللغات الشرقية، على خلاف أساطين الاستشراق الفرنسي أمثال لوي ماسينيون وريجيس بلاشير وجاك بيرك، مثلما يرفضون الاستشراق الجديد، هذا الذي يجريه الشرقيون على أنفسهم من خلال رؤية الآخر، ومقاربته وتصوره، والأهم هو أنهم يرفضون الاتجاهات التي تحركها الضغينة والحقد من داخل الغرب، سواء من اتجاهات توظف الدين، أو أخرى هي صورة معكوسة له، تصدر من عداء للإسلام، أو ما يسمى بالإسلاموفوبيا.

 

أصحاب البادرة يعتبرون أنفسهم غربيين، ولدوا به، ولكنهم لا يتنكرون لبلدان آبائهم الأصلية وما تحيل إليه من مرجعية ثقافية وحضارية، ويمزجون بين هذا الرابط الذاتي مع آخر موضوعي من خلال مقاربة علمية. يسعون أن يفهموا، عوض أن يُجروا أحكاما، ولا يُخفون رغبتهم في أن يكونوا جسرا بين عالمين عوض أن يكونوا صدى لصدام الحضارات أو حطب له، تغذيه القراءات الإيديولوجية والجهل، أو المعرفة السطحية.

 

شيء مهم أن تنتظم بادرة من هذا القبيل تأبى النعيق الذي تحبل به كثير من الأوساط الإعلامية والأكاديمية في الغرب في ظرفية مشحونة، تغلب عليها نظرة التوجس والحذر من كل مما يرتبط بالإسلام والمجتمعات الإسلامية والعالم العربي. بيد أني بقدر ما أنوه بالبادرة، لا أخفي حسرة، وهو قصور الجامعات في العالم العربي عموما كي تعرض لما يكتنف العالم العربي من قضايا، لا لقصور جامعييها وباحثيها، بل لإن قوالب الإيديولوجية والخلافات سياسية تحول دون ذلك.

 

استطعنا بالعالم العربي أن نبني جامعات، بمواصفات عمرانية راقية، وبأدوات متقدمة، ولكننا عجزنا أن نمدها بروح، ولذلك ينفر الطلبة
استطعنا بالعالم العربي أن نبني جامعات، بمواصفات عمرانية راقية، وبأدوات متقدمة، ولكننا عجزنا أن نمدها بروح، ولذلك ينفر الطلبة
 

في بوردو التقى المغربي والجزائري واستمع لبعضهم البعض، ولم يَحُل الوضع القائم بين بلديهما أن يتناقشا في هدوء واحترام بل وود. في بوردو عرض اللاجئ السياسي السوري للوضع بسوريا في هدوء وتم الاستماع له في هدوء. ببوردو تكلم الصحافي العراقي من مرجعية شيعية، ورد عليه السوري من مرجعية سنية، في هدوء واحترام. ببوردو عرضت الصحفية الإيطالية لورا سيليفيا باتاغليا، Laura Silivia Battaglia من أصول صقيلية، وتعيش متقبلة ما بين اليمن وإيطاليا بجامعة ميلانو إلى المأساة الإنسانية باليمن، أو الحرب المنسية بها. في بوردو، ناقش الحاضرون الحصار على قطر، ولم تقم قائمة، أو صراخ، أو تخوين.

 

استطعنا في العالم العربي أن نبني جامعات، وأحيانا بمواصفات عمرانية راقية، وبأدوات متقدمة، ولكننا عجزنا أن نمدها بروح، ولذلك ينفر الطلبة، ممن تمكنهم وسائلهم المادية، إلى الغرب. هل نتقدم إن لم تستطع مؤسساتنا الجامعية أن تعرض في موضوعية لقضيانا، وهل هي تستطيع إن ظلت رهينة رؤى أيديولوجية، وتجثم عليها الخلافات السياسية؟ هل نحتاج أن نرحل إلى الغرب لنتحدث حول قضايانا، في حرية، ونعلم شؤونها في دقة وموضوعية؟ هل نعيب الغير والعيب فينا؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.