شعار قسم مدونات

فلنحيا كما أراد لنا الشهداء

مدونات - الغوطة
هل جربتم يوماً أن تكونوا مستلبين تماماً لفكرة ما، مأخوذين لأقصاكم بها، مسكونين بهواجسها، هذا ما عرفه وخبره وعاشه الثائر منذ أن نفض غبار الذلّ الطويل وقال لا في وجه من قالوا نعم! بجنون مطلق، وخطوات راسخة وبكل ما في الأرض من ثبات وغضب يصعد على سارية مرتفعة وسط ساحة جامعة حلب وحوله أصدقاؤه يدفعونه إلى أعلى بأكتافهم وأذرعهم والجمع الغفير حولهم يصفق ويكبر ويصفر أيضاً، تعلو الأيدي حاملة إشارات النصر بعد أن تم رفع علم سورية الذي أعادته الثورة كالفينيق من تحت الرماد عالياً عالياً.
 

وبخطٍّ فتيّ ملؤه العنفوان كأنامل من خطه على جدارٍ في درعا، رسم فتية صغار لنا أول الدرب، وثقبوا أول ثغرةٍ للضوء لنبصر منها المعنى وجوهر الوجود. أعزلاً إلا من إيمانه وقف أحد المتظاهرين في درعا حاملاً كاميرته في وجه رجال الأمن المدججين بالسلاح وقد هموا بقمع المتظاهرين بالرصاص الحي يقول لمن صوب بارودته نحو صدره "قوصني!".

 

في مشهد آخر يركل أحدهم بقدمه الطاهرة وجه الطاغية المرسوم على إحدى اللافتات الكبيرة من علوّ لا ندري ولا يدري ربما هو كيف صعد إلى هناك، وليس ذلك مهماً أصلاً، ما دام ممسوساً بالفكرة المحرك، والهدف الجليّ، لا مستحيل هنا أبداً، كلّ شيء بلا شكّ سيبدو سهلاً. مع كل صورة مزقت للطغاة، ومع كل تمثال سقط، كان جدار الخوف فينا يسقط شيئاً فشيئاً.

 

حين انطلقت الثورة وحملناها إيماناً في قلوبنا، كفرت نفوسنا بكل شكل للحياة مهما كان رغيداً أو مزخرفاً إن كانت تهان فيه كرامة ولو فردٍ واحدٍ في بلدة أو مدينةٍ أخرى ربما لم نزرها يوماً

ومجرداً من كل هذا الخوف خرج أحمد البياسي، في "البيضا" تلك القرية الصغيرة النائية في ريف مدينة بانياس، مظهراً هويته على الكاميرا ليقول للعالم ماذا فعلت عصابات الشبيحة التي اعتدت على مجموعة من الأهالي وكان منهم، في ساحتها الرئيسية، بالدوس على وجوههم بأقدامهم القذرة حين اقتحمت قرية البيضا.

 

نكون أو لا نكون، بهذا الإيمان كانت تخرج المظاهرات العارمة أول الثورة تجوب شوارع سورية من الشمال إلى الجنوب، مرددين وسلاحنا حناجرنا، الشعب يريد إسقاط النظام. في مشهدٍ كان كفيلاً بأن يزلزل أركان الطاغية ويهز عرشه. سقط نظام الأسد فعلاً منذ أن انطلقت أول صرخة حرية، وما كان منه بعد ذلك إنما جثة متفسخة تكالبت دول العالم أجمع من أجل تحنيطها وإبقائها حارساً لمصالحها ولو كان الثمن دماء شعبٍ بأكمله. لم تعرف الريح التي تدفقت من الحناجر غضباً أنها حين لامست جبروت نظام الأسد فخرّ كالرمال، إنما نفخت الرمال ليتكشف خلفها وجه هذا العالم القبيح كما هو، عارٍ إلا مما غشيه من العار.

 

والآن وقد تدفقت أنهار الدماء وتدفق الشهداء وتشظى جسد السوريين المدمى في كل البلاد، كان يمكن لكل واحد منا ألا يكون في هذا البلد أو ذاك، كان يمكن ألا نملك هذه اللحظات القليلة الهادئة، كان يمكن أن تصيبنا الغارة أو الرصاصة التي أخطأتنا قدراً، أو أن نكون في زنزانة فردية أو جماعية شبعت من رائحة الموت، نتذكر من كان يمكن أن يكونوا مكاننا الآن في بلاد غريبةٍ وقد نسونا! أو ربما قد يتذكروننا من حين لحين.

  undefined

 

حين انطلقت الثورة وحملناها إيماناً في قلوبنا، كفرت نفوسنا بكل شكل للحياة مهما كان رغيداً أو مزخرفاً إن كانت تهان فيه كرامة ولو فردٍ واحدٍ في بلدة أو مدينةٍ أخرى ربما لم نزرها يوماً. كانت الكرامة والحرية والأرض الضاربة بجذورها فينا أسماءنا الجديدة حين ولدتنا الثورة من جديد. كل المبررات لم تكن تعنينا وكل ما يمكن أن يخنق ضوء الشمس الذي انفرجت عنه أصابعنا وتسرب من خلال جفوننا كان يذهب هباءً كزبد البحر.

 
كانت ناراً آنسناها في وحشة ليلنا الطويل المظلم، كيف لسبع سنين تركَنا فيها الشهداء أحياءً أن ننسى الله الذي تجلت قدرته معجزةً تلو معجزةٍ تدفقت من حناجرنا في أول البدء، لنطلب شكل الحياة، الذي كنا قد كفرنا به، عِجلاً دون ما كان.

 

بعد كل هذه الدماء والتضحيات، ومن أجل كل هذه الدماء والتضحيات هناك من يتراجع ويفقد إيمانه، وهناك من يزداد تجذراً بقضيته لنفس السبب. اليوم والغوطة تتعرض لحملة إبادة، بكل أنواع الأسلحة، ينزف أهلها الدم والألم، ويغشى وجوههم المصفرة والنحيلة رماد المحرقة وتختنق أنفاسهم بالكيماوي كل يومٍ وآخر. لا أقل من أن نكون صدىً لصرخاتهم بحق، أن نغرق العالم بكل ما صمت وأشاح بوجهه عنه.

 

كم مرة أخطأتنا الرصاصة لنحيا يوماً آخر كما أراد لنا الشهداء.
فلنحيا كما أراد لنا الشهداء..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.