شعار قسم مدونات

عودة الحرب الباردة

blogs بوتين

جرت الانتخابات الرئاسية الروسية يوم 18 الحالي التي يَخلف فيها الرئيس فلاديمير بوتين نفسه، في جو دولي مشحون، ينبئ بعودة الحرب الباردة، واصطفاف الدول الغربية في جبهة موحدة ضد روسيا بعد اغتيال العميل الروسي البريطاني سيرغي سكيربال من قِبل المخابرات العسكرية الروسية بسالزبوري ببريطانيا، واستصدار قرار موحد من قِبل الدول الغربية بتاريخ 15 مارس يدين استعمال روسيا لأسلحة كيماوية، مثلما يدين انتهاك سيادة بريطانيا.

 

لم يكن حدث اغتيال العميل الروسي البريطاني إلا القشة التي قصمت ظهر البعير، كما يقال، ولكنه الحدث الأبرز في موقف موحد وصريح من قِبل الدول الغربية، الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا فضلا عن بريطانيا، دعما لهذه الأخيرة في موقفها ضد روسيا. كان انتخاب الرئيس بوتين سنة 2012، العلامة الأبرز لتحول علاقات روسيا والغرب، وأفضى إلى سياسية جديدة لروسيا، على المستوى الخارجي والداخلي، أنهت عهد التساهل الذي أعقب سقوط حائط برلين وتحلل الاتحاد السوفيتي وسير روسيا في ركاب الولايات المتحدة، دبلوماسيا، واقتصاديا من خلال تبني نظام السوق والتسيب الذي أعقب ذلك.

 

عرفت روسيا عقب الحرب الباردة غيابا على المستوى الدولي، أو حضورا صوريا، ودخلت في دوامة من الاضطرابات ومحاولات الانقلابات، أبرز علاماتها قصف مبني الشعب الدوما من قبل المتمردين، وتغول مافيات مالية، نخرت مؤسسات الدولة. العودة القوية لبوتين بدءا من سنة 2012، تقترن عند الروس إلى ما يسمونه بنهاية عهد الخنوع، ظهر ذلك جليا في قصف جورجيا جراء نزاع ترابي، والتأثير في الوضع الداخلي بأوكرانيا. لكن المؤشر على نهاية شهر العسل مع الغرب ومع الولايات المتحدة هو ضم جزيرة القرم. يغلق هذا الفصل الانفراج الذي أعقب نهاية الحرب الباردة.

 

عودة الحرب الباردة، من غير إيديولوجية، ومن غير سباق للتسلح، أنهت أسطورة نهاية التاريخ، والنظام العالمي الجديد، والأدبيات الاحتفائية التي أعقبت سقوط حائط برلين

وتعتبر الأزمة السورية إضافة إلى أوكرانيا ساحة الصراع مع الولايات المتحدة خاصة، ومع الغرب عامة. لم يعد الشأن السوري سوريا بل دوليا، وأضحى بؤرة الصراع ما بين الولايات المتحدة وروسيا. وبقدر ما يؤشر على عودة روسيا إلى الساحة الدولية، بقدر ما يؤشر على رغبة روسيا استعادة قلاعها في الشرق الأوسط.

 

تريد روسيا من خلال سوريا أن تمحو لعنة سياق حرب الخليج الأولي (1990-1991) حين استفردت الولايات المتحدة بالقرار وفرضت تصورها ودفعت روسيا إلى وضع صوري، رغم محاولات بريماكوف، أحد كبار العارفين بالشرق الأوسط نزع فتيل أزمة الخليج وحل الأزمة بطرف دبلوماسية. تطمح روسيا أن تعود للشرق الأوسط من بوابة سوريا، وتسعى أن تستعيد معاقلها القديمة، كما في ليبيا، وتحافظ على علاقات متميزة مع الجزائر، وتتطلع إلى علاقات استراتيجية مع مصر. وبتعبير آخر، فكما كان الشرق الوسط ساحة للصراع أثناء الحرب الباردة، فالمرجح أن يكون ساحة تنافس ما بين الغرب وروسيا، في السياق الحالي.

 

ومن جهة الدول الغربية، يدشن الموقف الموحد حيال روسيا، على تحول إدارة ترمب في التعامل مع روسيا. لم يعد الغموض هو الغالب في التعاطي مع روسيا أو المغازلة، من خلال خطاب مطمئن عبر عنه الرئيس الأمريكي غير ما مرة. سبق للرئيس الأمريكي ترمب أن اعترض على تطبيق في قرار الكونجرس في فرض عقوبات على روسيا جراء تدخلها في الشؤون الداخلية للولايات المتحدة وتأثيرها في مجري الانتخابات الرئاسية.

 

ومن دون شك أن التغييرات التي عرفتها الإدارة الأمريكية مؤخرا من خلال تعيين مايك بومبيو  Mike Pompeo كاتبا للدولة في الخارجية، من بعد شُغله منصب مدير الوكالة المركزية للمخابرات، وتعيين واحدة من الصقور على رأس الوكالة السيدة جينا هاسبيل  Gina Haspel مؤشر على تغيير في باراديغم السياسية الخارجية الأمريكية أكثر منه تغييرا في الأشخاص. لم تعد الولايات المتحدة تجنح للمهادنة حيال كل من روسيا ولا الصين. تَعتبر الأولى منافسا على المستوى الدبلوماسي والعسكري، والثانية على المستوى الاقتصادي.

 

تطمح روسيا أن تعود للشرق الأوسط من بوابة سوريا، وتسعى أن تستعيد معاقلها القديمة، كما في ليبيا
تطمح روسيا أن تعود للشرق الأوسط من بوابة سوريا، وتسعى أن تستعيد معاقلها القديمة، كما في ليبيا
 

المرجعية المعتمدة هي تلك المستوحاة من أدبيات المحافظين الجديد، أو ما ينعت في الصحافة الأمريكية بعودة المحافظين الجدد. تولي مرجعية المحافظين الجدد الأولية للقوة ومظاهرها، ومنها القوة العسكرية والعقوبات الاقتصادية، على التأثير، أو ما يسمى بالقوة الناعمة، وتعليب الحضور الدبلوماسي، على الجانب الاقتصادي. ويرى المحافظون الجدد الذين تواروا بعد فشل مقاربتهم في إعادة ترتيب الشرق الأوسط، ويعودون بقوة في خضم التطورات الدولية الأخيرة، أن روسيا خصم منذ ضم جزيرة القرم، ويعتبرون تحركات الصين في بحر الصين تهديدا للمصالح الأمريكية، وينظرون إلى الاتجاهات الإسلامية بصفتها عدوا ينبغي التعامل معها بالقوة والحزم. هي المحاور الكبرى للجيل الجديد لخطاب المحافظين الجدد، في سياق دولي متوتر.  

 

نعم هي عودة الحرب الباردة، من غير إيديولوجية، ومن غير سباق للتسلح، أنهت أسطورة نهاية التاريخ، والنظام العالمي الجديد، والأدبيات الاحتفائية التي أعقبت سقوط حائط برلين. إن العالم أضحى أكثر خطورة من ذي قبل، مثلما قال الأمين العالم للمتحدة أونتونييو كيرتيس في أول خروج إعلامي له، عقب انتخابه، قبل سنة. سيكون وقود الصراعات الاختلافات الإثنية والعقدية، وهي أشد فتكا من صراع الطبقات، وقد تكون الحرب الباردة الجديدة أكثر ضراوة من الأولى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.