شعار قسم مدونات

من نحن؟

blogs الهاتف

أجلس في المطعم، يجلسُ على الطاولة المجاورةِ زوجان، يتناولان طعامَهما على مهلٍ، وكلّ منهما جالسٌ بصمت، ممسكٌ هاتفَه النقّال، لم يتبادلا الحديثَ، أو ينظر أي منهما إلى الآخر! أمامي الآن تجلسُ امرأة مع صديقاتها، وتُجلس مولودها على كرسيّ بجانبها، وأمامها هاتفُها النقال، طفلٌ لم يتجاوز سنته الأولى، جالسٌ في قمة التركيز والهدوء متابعاً برنامجاً أبله؛ كي تنعمَ الأم بقليل من الهدوء، أو الكثير منه، لا أعرف.. ولا أعرف هل نحن نحبّ والدِينا كلّ هذا الحبّ لأنهم والدانا فحسب، أم بسببِ تلك التضحياتِ التي ضحَّوا بها أمام أعيننا مراراً ونحن نشاهدُهم يتسابقون على إرضائنا؛ كي لا يختزل ذكرياتنا شيءٌ من العوز والحاجة.. يقول آلبرت أينشتاين: "أخشى من ذلك اليومِ الذي تسلبُ فيه التكنولوجيا إنسانيتَنا، حينها سيكونُ العالم قد مُلئ بالأغبياء".

بجانبي قريبتي التي لم تتجاوز التاسعةَ من العمر، تحمل جهازاً صغيراً، وتجلسُ على حافة الكرسيّ، لتصل إلى الطاولة التي أمامها وتبدأ بتصفّح البرامج الكثيرة على هاتفها، أحد البرامج يظهرُ بها شخصية بملابسَ أنيقةٍ، وكل ما على فتاةِ التاسعة أن تنسّق لها ملابسها، وتصفف شعرَها. تتنقل بين صفحتها الخاصة على الفيسبوك، وصفحتها على الإنستجرام؛ لأنها -وبِحَدّ قولِها- تتابع مشاهير في مثلِ سنها، قلتُ لها: "لماذا لا تذهبين وتلعبين؟"، تقول لي وعيناها مصوبةٌ نحو جهازها: "لا شيءَ مُسَلٍّ لفعله".

أتذكرني وأختي التي تصغُرني بعامين ننتظرُ جدولَ برامج الرسوم المتحركة، سالي وريمي وعهد الأصدقاء بفارغ الصبر، تعلَّمنا منهم الإيثار، والمحبةَ والتضحية، تعلمنا أن نثابرَ لننالَ ما نستحق، تعلمنا منهم أنّ الفقيرَ فقيرُ الأخلاق لا فقيرُ الملابس والألعاب والأشياء والسفريات. كانت البرامج المتحركةُ تشكلُ شخصيتي، وكنت أتشابه مع شخصياتِها الكرتونية؛ بطريقة تفكيري، ولباسي، وأحلامي.. أذكرُ أني أحببت القراءةَ؛ لأن إحدى الشخيصاتِ الكرتونيةِ كانت تواظب على القراءة فواظبت عليها.

 أكادُ أجزم أنّنا لا نستطيعَ الاستغناءَ عن هواتفِنا أو وسائلِ التواصلِ التي تُظهرنا بأبهى صورةٍ نريد إظهارَها؛ لأنّنا سنضطرّ لمواجهةِ الحقيقة
 أكادُ أجزم أنّنا لا نستطيعَ الاستغناءَ عن هواتفِنا أو وسائلِ التواصلِ التي تُظهرنا بأبهى صورةٍ نريد إظهارَها؛ لأنّنا سنضطرّ لمواجهةِ الحقيقة
 

كنا نجتمعُ مع أولاد الجيران كلّ ظهيرة بعد المدرسة؛ لنلعبَ الريشة، أو الحبلةَ، أو الحجلةَ، أشياءُ بسيطةٌ كانت تُسعدنا، ثم نعودُ لنكملَ واجباتنا اليومية. عندما أجد الصغيرات يتنافسن على امتلاك أشياء مادية قام مشاهير السوشال ميديا بعرضها لغرض الدعاية، وأراهنّ رغم كل ما يمتلكن يشعرن بالنقص والتعاسة.

 

عندما يُقسم لي أحدُ طلبتي أنّ صديقَه قد عُيّن في أكثر الشركات تأثيراً في عالم الإعلام؛ لأنّه يملِكُ عدداً هائلاً من المتابعين، ينتابُني الحزن، عندما أرى جيلاً يحاول قدرَ الإمكان أن يندمجَ ببيئةٍ خادعة، تنظرُ إلى الأمور بمنظار أعوجَ، منظارٍ لا يقيس نجاحاتِ الأفراد بشهاداتِهم العلمية، أو ثقافتهم، أو مصداقيتهم، بل بمقدار قدرتهم على اختلاق الأكاذيب، عندما أرى أنّ هذه الوسائل تُحبط جيلاً بأكملِه، فلا أستطيع استيعابَ سببٍ واحدٍ من أسباب بقائه أول اهتماماتنا..

 

نحن لا ندركُ لماذا كلُّ هذا الاهتمامِ بعالمِ الأزياءِ والموضة والماركات والسفريات المرفهة، حتى أصبحنا نسترقي النظرَ إلى هذا العالم بأنفسِنا يوماً بعد الآخر، فأصبحنا بلا وعيٍ مِنا نواكب الأوهام.. أكادُ أجزم أنّنا لا نستطيعَ الاستغناءَ عن هواتفِنا أو وسائلِ التواصلِ التي تُظهرنا بأبهى صورةٍ نريد إظهارَها؛ لأنّنا سنضطرّ لمواجهةِ الحقيقة، سنضطرّ للنظرِ إلى المرآة بدلاً من الصور التي تُظهرنا أجمل، سنضطرّ للتحدثِ مع البشرِ وجهاً لوجه. ومواجهة حقيقة أنفسنا. في عالم السوشال ميديا أنت قادر على منح الآخرين ما تريد إظهارَه، مظهرك وشكلك الذي تريد أن تبدو عليه، لا وجهك الحقيقي ومشاعرك الحية، لأن الحقيقية لا تكفي لجمع المتابعين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.