شعار قسم مدونات

فنيات الترجمة الفورية (2)

blogs استماع

تكلمنا في الحلقة الفائتة عن الترجمة الفورية والإجراءات الثلاثة التي تتم بطريقة متزامنة تقريباً ويفرق بينها فترة زمنية مدتها ثانية أو كسر من الثانية، وهي الاستماع والتحليل والإنتاج. سنتكلم في هذه الحلقة عن الفنيات التي تمكن المترجم من متابعة الترجمة بسلاسة وبدون تعتعة أو مد الكلام.

 

أولاً إيجاد الفجوة الذهنية:

وهي مساحة ذهنية تمكن المترجم من تخزين الكلام مؤقتاً بغية تحليله وإعادة تركيبه بلغة أخرى بما يتوافق مع التراكيب اللغوية للغة المستقبلة وذوق المتلقي في تلك اللغة. من فوائد هذه الفجوة الذهنية أنها تمكن المترجم من الاحتفاظ بالكلام لثوانٍ دون أن يتوقف عن الاستماع للمتحدث، بمعنى أنه يستمع ويخزن بصورة متتابعة. نحن في الظروف العادية نستمع ونستوعب المعنى وننسى ما يقال لنتابع الاستماع، ولكن لو أردنا أن نحتفظ ببعض ما يقال ستضيع علينا الجملة التالية. إذن مهمة الفجوة الذهنية هي تمكين المترجم من الاحتفاظ بكلام المتحدث لثوانٍ بغية تحليله وإعادة تركيبه في اللغة المستقبلة مع مواصلة الاستماع. ما يحصل هو أنه بمجرد ما تمت الترجمة إلى اللغة المستهدفة يزول الكلام من الفجوة الذهنية ليحل محله كلام آخر بطريقة متسلسلة وبدون انقطاع.

 

إذا توقف المترجم منتظراً المتحدث يقول ما يريد ليبدأ الترجمة فإنه سيكون مشتتاً بين السعي لفهم مراد المتحدث وبين الترجمة، ولكن إذا بادر المترجم لاستقراء مراد المتحدث فهو بالتالي يركز جهده أكثر في تجويد الترجمة

وكلما يستطيع المترجم إبقاء الكلام داخل الفجوة الذهنية لأطول فترة ممكنة من أجل التجويد واختيار أفضل الصيغ في اللغة المستهدفة إذا كان المتحدث بطيئاً وكلامه مركزاً أو مرتباً في تفكيره. ولن يكون ذلك ممكناً إذا كان المتحدث سريعاً أو غير مرتب في تفكيره بحيث يقول جملة وقبل أن يكملها يقفز لفكرة أخرى ثم يرجع ليكمل الفكرة الأولى. لذلك يقال أن المتحدث هو الذي يحدد جودة الترجمة الفورية. إذن، كيف نستطيع إيجاد هذه الفجوة الذهنية؟ يمكن خلق الفجوة الذهنية عن طريق التدريب على تعدد المهام، بحيث تعمل أكثر من شيء في وقت واحد. يقوم تدريب خلق الفجوة الذهنية على الآتي:


* مشاهدة فيديو مثلاً أو الاستماع لمقطع صوتي (مع التأكد من وضوح الصوت) مع ترديد ما يقوله المتحدث وتسجيل هذا الترديد، على ألا تتعدى مدة التسجيل الخمس دقائق. يقوم المتدرب بالاستماع إلى صوته ومقارنته مع صوت المتحدث للتأكد من دقة المتابعة. يتم تكرار هذه العملية بصورة مستمرة حتى يتعود المتدرب على دقة المتابعة. (مع التنبيه أننا لا نتكلم عن الترجمة وإنما ترديد نفس الكلام المسموع).

* المرحلة الثانية يأخذ المتدرب ورقة وقلم ويكرر نفس التدريب أعلاه ولكن هذه المرة يبدأ يكتب الأرقم العادية من 100 إلى 1 تنازلياً. بمعنى أن المتدرب يقوم بثلاثة مهام في آن واحد: تسجيل صوته والاستماع والكتابة، علماً بأن الكتابة لا علاقة لها بالصوت.

* المرحلة الثالثة من التدريب يتكرر تدريب المرحلة الثانية ولكن الأرقام التنازيلة تكون رقمين بدلاً من رقم واحد ثم ثلاثة أرقام وهكذا. بهذه الطريقة يكون المتدرب قد استطاع أن يوجد فجوة ذهنية تمكنه من أداء مهام متعددة في آن واحد دون أن يغلق عقله في لحظة ما.

 

ثانياً قراءة ذهن المتحدث:

المقصود بقراءة ذهن المتحدث أن يتنبأ المترجم بما سيقوله المتحدث. وهذا سيقلل عليه عناء التفكير بمراد المتحدث. إذا توقف المترجم منتظراً المتحدث يقول ما يريد ليبدأ الترجمة فإنه سيكون مشتتاً بين السعي لفهم مراد المتحدث وبين الترجمة، ولكن إذا بادر المترجم لاستقراء مراد المتحدث فهو بالتالي يركز جهده أكثر في تجويد الترجمة. إذن، كيف نتمكن من قراءة ذهن المتحدث؟ هناك طرق عديدة تمكننا من قراءة ذهنية المتحدث، من بينها:


* الاطلاع المسبق على المادة: الوضع المثالي هو أن يطلع المترجم على المادة التي ستكون موضوع العرض التقديمي في المؤتمر أو الورشة التدريبية أو المناسبة المعنية. هذه العملية تكون جزء من إجراءات التحضير التي يقوم بها المترجم بعد إخطاره بالمناسبة المعنية وتأكيدها. الجهات التنظيمية بعضها مرتبة وتدرك أهمية الترجمة الفورية وبالتالي فإنها ترسل المادة مسبقاً ليطلع عليها المترجم. غير أن العديد الجهات وخاصة في العالم العربي لا تدرك أهمية دور المترجم وبالتالي تتيح المادة في اللحظة الأخيرة، قبل لحظات من بدء المؤتمر إن لم يكن أثناءه. وإذا ابتنينا على أسوأ التقدير فإن على المترجم الاطلاع على الموقع الإلكتروني للجهة المنظمة بغية التعرف على أبرز الاختصارات وطبيعة عمل هذه الجهة.

* إجراء لقاء غير رسمي مع المتحدث والدردشة معه قبل بدء البرنامج، خاصة في الورش التدريبية المتخصصة، بغرض التعرف عليه ومعرفة لكنته وطريقة تفكيره. هذا اللقاء غير الرسمي كفيل بإزالة الحواجز وتقريب الشقة بين المترجم وبين المتحدث.

* التعرف على المفاهيم الأساسية في المجال المعين الذي سيكون موضوع الفعالية. فلو كان المجال هو الاستثمار مثلاً، فيجدر بالمترجم التعرف على المحاور الأساسية التي ستناقش في الجلسة.

 

يحب على المترجم تحديد نقطة التركيز يعني أن المترجم يتعامل أثناء الترجمة مع لغتين مختلفتين، وبالتالي سيكون التركيز على إحدى اللغتين مسألة تلقائية.
يحب على المترجم تحديد نقطة التركيز يعني أن المترجم يتعامل أثناء الترجمة مع لغتين مختلفتين، وبالتالي سيكون التركيز على إحدى اللغتين مسألة تلقائية.
 
ثالثاً إزالة هيبة الجمهور:

المشكلة التي تواجه المترجمين، خاصة حديثي العهد بالترجمة، هي تهيُّب الجمهور. فلو كان من ضمن الحضور وزراء وكبار مسؤولي الدولة مثلاً، أو مسؤوله الأعلى في العمل، فإنه سوف يصاب بشيء من الارتباك. لأنه سيبدأ يفكر أن هؤلاء الناس سيستمعون إليه وماذا سيكون تعليقهم؟ هذا التفكير في حد ذاته كفيل بتشتيت ذهن المترجم والإخلال بتركيزه. لذلك فإن أفضل طريقة لتحاشي هذه الحالة هي التعامل مع الجمهور كما لو كانوا من الرجرجة والدهماء الذين لا يعرفون شيئاً. ليس المقصود هنا احتقار الجمهور وبالتالي التصرف بما يوحي بذلك أثناء الترجمة وإنما المقصود إزالة الهيبة والتعامل مع الوضع على أنه أكثر من عادي بغية اكتساب مستوى من الشجاعة التي توفر قدراً من الاطمئنان.

 

رابعاً تحديد نقطة التركيز:

نعني بتحديد نقطة التركيز أن المترجم يتعامل أثناء الترجمة مع لغتين مختلفتين، وبالتالي سيكون التركيز على إحدى اللغتين مسألة تلقائية. فلو كان الاستماع للغة الأم فسيكون التركيز على اللغة الأجنبية عند الإنتاج. وإذا كان الاستماع للغة الأجنبية فسيكون التركيز على اللغة الأجنبية لأن الغرض من التركيز هو التأكد من فهم المعنى. ومن الطبيعي أن الإنسان عندما يستمع للغة الأم لا يتنبه للمفردات بقدر ما يهتم بالمعنى، وأما عند الاستماع للغة الأجنبية ينزع المرء تلقائياً إلى التركيز على المفردات ومعانيها. غير أن هذا التركيز التلقائي يتعرض للاضطراب عندما يشتغل المرء في مجال جديد بالنسبة له أو عندما يشتمل الكلام على أرقام.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.