شعار قسم مدونات

سردية زبيدة وستيفن سبيلبرج

blogs زبيدة إبراهيم

ستيفن سبيلبرج هو واحد من أهم مخرجي السينما الأمريكية والعالمية وإلى جانب إبداعه في إخراج أفلام الحركة والخيال العلمي فإنه أكثر إبداعا عندما يخرج أفلاما عن الموضوعات والقضايا التي يؤمن بها، ويُخضع مشروعه الإبداعي لتكثيفها وتعميق مفاهيمها. تأمل على سبيل المثال لا الحصر جهده في فيلم "قائمة شندلر" 1993 الذي قصد منه عمل رسالة إنسانية عميقة لتحميل الجميع ذنب ضحايا الهولوكست. حتى من سعى لإنقاذ المئات منهم، وهو بطل الفيلم أوسكار شيندلر فقد جعله يبكي وهو يندم على أنه لم يستطيع اإنقاذ المزيد.

 

وفي فيلمه "إنقاذ الجندي راين" 1998، تعامل سبيلبرج بعبقرية مع فكرة الحرب وجدواها ومفهوم الفقد والموت والتأكيد على لا أخلاقية الحرب. وكذلك فيلم "لينكولن" 2012، عن العبقرية السياسية للرئيس الأمريكي إبراهام لينكولن. مؤخرا وبالتحديد العام الماضي، قام نفس المخرج بإضافة إبداع جديد إلى رصيده المتجدد تمثل في فيلم "البوست" 2017، وهو يشير إلى جريدة الواشنطن بوست حيث يعتمد الفيلم على قصة حقيقية قاومت فيها الجريدة ومديرتها الناشرة السيدة القوية خطر الإفلاس بل والعقاب القانوني لأنها تملك شجاعة مناصرة الحق ومساندة المبادئ واحتضان القيم.

 

استشعرت السلطات المصرية الحرج بعد عرض الفيلم عالميا وعلى موقع هيئة الإذاعة البريطانية الذي يتابعه عشرات الملايين من كل أنحاء العالم. وتفتق الذهن عن تجنيد أحد أهم الإعلاميين المنتمين لها لإجراء حوار مع زبيدة

يدور الفيلم حول فضيحة تسرب وثائق من وزارة الدفاع الأمريكية "البنتاغون" في عام 1971 والمرتبطة بحقائق الحرب في فيتنام، ومحاولة الرئيس نيكسون وفريقه وقف نشرها للشعب الأمريكي. تتخذ السيدة قرارها بنشر الأخبار الحقيقية حتى لو أن هذا النشر سيحطم عملها وبيتها وأسرتها وإرثها ويسحق مؤسستها ومؤسسة عائلتها على مدار أجيال. والأكثر خطورة أن هذا النشر سيضع السيدة والمؤسسة في قائمة أعداء أقوى رجل في العالم، الرئيس الأمريكي، ولكن قيمة العمل الصحفي وقدسيته أعطت لها ولمن حولها الطاقة لمقاومة الظلم والتستر والتكتم وجعل الشعب أخر من يعلم وتكثيف ثقافة الكذب.

تذكرت كل هذا ومرت أمام عيني مشاهد الأداء البديع لبطلة الفيلم الممثلة القديرة ميريل ستريب ورئيس التحرير الممثل القدير توم هانكس، بينما أنا أتابع زبيدة ووالدة زبيدة وموقف الإعلام المصري وانتفاضته المباركة. زبيدة هي شابة مصرية عمرها ثلاث وعشرين عاما قامت هيئة الإذاعة البريطانية بنشر فيلم وثائقي مدته ثلاثة عشر دقيقة بعنوان "سحق المعارضة في مصر" تضمن لقاء مع والدتها أم زبيدة. في الفيلم الوثائقي تشكو أم زبيدة وهي تتمالك نفسها وتبكي وتتحسر على اختفاء ابنتها ثم الحالة التي وجدتها بها بعد شهور من الاختفاء، كانت ابنتها مُهانة، مهدورة الكرامة، خاضعة للتعذيب بل والأكثر ألما "أنهم فعلوا بها كل ما يغضب الله" تبعا لتعبير الأم الحزينة المتألمة. هذه الجملة الأخيرة هي التي يستخدمها أفراد المجتمع البسيط في مصر للتعبير عن جريمة الاغتصاب. ثم تنهي أم زبيدة شهادتها وهي تقول إنها أم محطمة وأسرتها تعاني ويتفقون جميعا على تمني الموت.

الواقع ولإبعاد شبح المبالغة فالقصة مكررة وأمثال زبيدة مئات في سجون مصر بل الآلاف. بل إن ما حدث لزبيدة هو مثار حسد أهالي مفقودين لم يظهروا بعد وقد لا يظهروا أبدا، أو ظهروا جثثا هامدة. الفارق الوحيد الذي سبب انتفاضة الإعلام المصري هو أن في هذه الحالة فأن القصة تبنتها مؤسسة إعلامية عالمية عريقة مثل هيئة الإذاعة البريطانية. لم ينتفض الإعلام المصري كما فعلت الواشنطن بوست، معترضا على السجن والاختفاء القسري والتعذيب والقتل وإنما اعترض فقط على النشر العالمي. كانت هيئة الإذاعة البريطانية قد بثت فيلما وثائقياً بشأن التعامل القاسي مع الأصوات المعارضة وظاهرة الاختفاء القسري في مصر أعدته المراسلة البريطانية السابقة في القاهرة، أورلا غورين. أجرت أورلا مقابلات مع معتقلين سابقين وأسرهم، تحدثوا عن معاناتهم وما تعرضوا له من تعذيب وإهانة وسحق لإنسانيتهم. 

استشعرت السلطات المصرية الحرج بعد عرض الفيلم عالميا وعلى موقع هيئة الإذاعة البريطانية الذي يتابعه عشرات الملايين من كل أنحاء العالم. وتفتق الذهن عن تجنيد أحد أهم الإعلاميين المنتمين لها لإجراء حوار مع زبيدة التي ظهرت فجأة لتنفي نفيا قاطعا كل ما قالته والدتها الحزينة. شاهدت اللقاء وتساءلت لماذا لم يستعين هذا الإعلامي بمخرج مثل ستيفن سبيلبرج ليخرج اللقاء بدلا من أن ينتهي بفضيحة محملة بعشرات الأخطاء الحوارية الإخراجية السينمائية. في السياق المكاني للحوار تجلس زبيدة وإلى جوارها من قال أنه زوجها ممسكا بطفل. أي مخرج كان سيصرخ "ستوب" لأن في هذه الطبقات الشعبية الأم هي التي تحمل الطفل وليس الرجل أبدا. كما أن درامياً فان حمل الأم للطفل يعطي مزيد من الجرعة الإنسانية للضحية.

ثم تتجول بعينك في المكان (حجرة في شقة زبيدة) وتجده محاطا بحوائط عارية وطقم من الارائك عديمة النقوش (قماش سادة أحادي اللون)، وهو سياق لا يمكن ابدا أن يتواجد في أي بيت شعبي مصري لأن الحوائط دائما مليئة بالصور والآيات القرآنية بينما الأثاث مبالغ في زخرفة أقمشته وألوانه. ثم تبلور الدليل الفارق عندما سأل الإعلامي زبيدة بعد أن كان قد أخبر المشاهد أنه في بيتها وبيت زوجها وأن العمارة ملكهم، وفجأة قال لها هل أساء إليك أحد هنا في الاستوديو. "ستوديو" فجأة وليس بيت ولا عمارة. هذا شديد المنطقية ويبدو أنه الشيء الصادق الوحيد في هذا الحوار لأن الحوائط والأثاث التجريدي والنبات البلاستيكي العملاق تؤكد بشدة أن سياق المشهد هو ستوديو وليس بأي حال من الأحوال شقة مواطن مصري طبيعي شعبي بسيط يسكن في حواف عمران حي الهرم (في شارع المنشية في منطقة فيصل في محافظة الجيزة تبعا لما صرحت به زبيدة). 

ذروة الدراما تتصاعد عندما تقرر الهيئة العامة للاستعلامات في مصر إصدار بيان هش طالبت فيه الشبكة البريطانية بـتقديم الاعتذار الفوري عن هذا الفيلم الوثائقي، مؤكدة أن ظهور الفتاة وتكذيبها لما ورد في شهادة أمها في لقائها مع الإعلامي المصري النجم، يثبت بما لا يدع مجالا للشك أن هيئة الاذاعة البريطانية كاذبة في فيلمها الوثائقي وتقاريرها ومصداقية مراسليها. ثم تصاعدت الدراما بصورة أكثر حدة مع طلب من باقي الإعلاميين المصريين بترحيل المراسلة ومقاضاة هيئة الإذاعة البريطانية بل وتألق بعض الإعلاميين ليصرحوا في برامجهم بأن الهيئة معروفة بانتمائها للإخوان ومساندتها لهم، وأبدع أحدهم قائلا أن هيئة الاذاعة البريطانية ممولة من الإخوان.

هل لهذه الدرجة اصبحنا نكره الحق والحقيقة وننهش لحم من يجرؤ ليجعل الشعب عالما بالأمور ومطلعا على الأحداث ومتفهما للسياق؟ هل يعقل أن نعتقد أننا سننتصر في حرب المصداقية مع هيئة الإذاعة البريطانية العريقة ونحن نواجهها بسلاح أديبي قرموطي إبراشي بكري حديدي رشواني؟ هل سيأتي اليوم على الشعوب العربية تتوجه فيه لدور السينما لتشاهد فيلم يوثق نجاح صحفي أو جريدة في تحدي رئيس الجمهورية ويصر على إعلام الشعب وينجح ويناصره الزملاء والقضاء والأكثر أهمية يعود إلى منزله وأسرته أمنا. إلى أن يأتي هذا اليوم دعونا نشاهد فيلم "ذا بوست" مرارا وتكرارا ونشكر ستيفن سبيلبرج وميريل ستريب وتوم هانكس. والأكثر ضرورة أن نشكر بكل العمق ونقدر كل التقدير الناشرة الحقيقية للواشنطن بوست السيدة الشجاعة كاثرين غراهام ورئيس التحرير الصادق بِن برادلي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.