شعار قسم مدونات

رواية "تسعة عشر" بين الموعظة والاختلاف..

من عاش في كنف الرواية، ستأخذ حياته اليومية منحى مغاير لما كانت عليها من قبل، فالمحاكمة الذاتية للنفس.. قيامة صغرى

رواية "تسعة عشر" هي آخر مؤلفات الكاتب الأردني أيمن العتوم. وقبل الخوض في غمار تفاصيلها وقبل أن أقرأ صفحاتها الثلاثمئة، كانت النبوءة بمحتوى الرواية أمرًا وعرًا. ولعلّ أول ما ولج إلى مخيلتي يقينًا، تلكم الآية الكريمة في سورة المدثر التي تذكر عنوان الرواية بذات اللفظ (عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ).. وكان القصد في الآية سقر أما المعدود.. فهو خزنتها. وهذه التسمية هي إطار عام ومنحى تسلكه كل روايات العتوم أي أن تمنح اسمًا ورد لفاظًا في القرآن الكريم، كرامة لربما لمن عجز الأولون الآخرون أن يأتوا بآية من مثله.

 

بدأت رحلتي معها فور تحصلي عليها، وحتى قبل أن أنهي قراءة الكتاب الذي بحوزتي، ربما هو الفضول الذي دفعني لمعرفة كُنهها، وربما الحدس بأن محتوى الرواية مختلف نصًّا ومضمونًا عن روايات كثر، وعلى أية حال فخيرًا ما صنعت.

استهلّ العتوم روايته بقول الإمام علي بن أبي طالب: "الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا".. تلكَ العبارة التي تحمل من البلاغة الأدبية وعمق المعنى الكثير، والدلالة المعنوية على الغفلة تتضح بشكل كبير في قصر النظر عن الآخرة، وكأن لسان حال الغافل يقول "إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا"، أما الآخرة فهي تقطن في مكان ما خارج حدود الخيال والادراك. قيل في تفسير الإيمان لغةً أنه ما وقع في القلب وصدقه اللسان، والإيمان بالآخرة يستقل بجزء من عموم الإيمان بالإسلام، وهكذا كانت كلمات علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- مقدمة تختزل ألف سطر من بديع البيان والوصف، والمفتاح الأول للرواية، ولعل هذا ما رمى إليه العتوم، في ايجاد مغزى متكامل للرواية، فما أكثر الغفلة والغافلين.

الرواية أشبهها بالمونودراما المكتوبة جسدها شخص واحد فقط، قد يبدو في بعض الأحيان مجهول الهوية وقد يبدو لك كأنت في أحيان أخرى

وبعد أن تستسيغ مخيلتك جزع الصدمة الأولى.. تنقلك لمشهدها الأول، وأي مشهد ذلك؟ حيث الصدمة الثانية.. بطل الرواية ينقلك معه في تغطية خاصة بعد أن أسدل الستار عن حياته الدنيا، لتبدأ بعدها مرحلة ما بعد النهاية الدنيا، فيأخذك بصحبته في رحلته تلك، وتمر مشاهد الرواية تباعا.. ليخف سطوع الصدمة ولا يخف سطوع اختلاف الفكرة التي لم تطرق مخيلة الكثير.. التفكير فيما بعد نهايتهم الدنيا.

وبسردٍ مطوّل.. يقودنا البطل معه إلى حياته في البرزخ.. تلك حياة الموتى التي لا نعلم يقينا بتفاصيلها.. فتعيش دور البطل رغمًا عنك.. وتستشعر ما يشعر فتأن وتبكي وتضحك.. وتستشعر رتابة الانتظار، والخوف من قادم مجهول، ثم تستسيغ الصبر ببالغ مرارته.. حينما لا يحل لك خيار آخر، حتى يحين يوم الحساب.. وتفزع لما تراه.. أو بالأحرى لما أخذك إليه العتوم بقلمه. ويختتم العتوم روايته والصدمة تعتلي تقاسيم وجهك.. وضجة ما في قلبك تهتف: المزيد!

الرواية أشبهها بالمونودراما المكتوبة جسدها شخص واحد فقط، قد يبدو في بعض الأحيان مجهول الهوية وقد يبدو لك كأنت في أحيان أخرى.. وتتقاطع شخصيته مع شخصيات أخرى من أسماء لامعة خلدها التاريخ (أنبياء، فلاسفة، شعراء، كتاب، ملوك، علماء… إلخ) على مر العصور، ليدور حوار فلسفي هام فيما بينهم وآخر هزلي، فتأخذك حواراتهم الشيقة بين الفينة والفينة للتصديق بأن حواراتهم تلك دارت بشكل أو بآخر في حياتهم الدنيا ونُقلت على لسانهم في الرواية، ذلك أن ردودهم تلك نابعة من شخصياتهم ولا شيء يدعوك للشك في ذلك سوى علمك بأنك تقرأها من رواية لم تحدث الا في خيال مؤلفها، وما أظن أن هذا التصديق جاء من براعة الكاتب في الكتابة وحسب؛ بل من فهم عميق لأنماط شخصياتهم.. وتركيز تام وعميق من العتوم على استحضار الشخصية كما هي، والعناية بشكل كبير بالموازنة بين شكل النص والمضمون..

ما أستخلصته لنفسي من رواية تسعة عشر:

* الخلاصة الأولى: أن تستشعر أن ما في الدنيا (الفانية) على حد تعبير العتوم، جزء مستقطع من حيواتنا الكاملة، لا يهم فيها على أي شاكلة عشتها ولكن يهم فيها أنها فترة اختبار صغير لصلاحك.. فإن صلحت.. صلحت حياتك وطابت بعدها..

من عاش في كنف الرواية، ستأخذ حياته اليومية منحى مغاير لما كانت عليها من قبل، فالمحاكمة الذاتية للنفس.. قيامة صغرى
من عاش في كنف الرواية، ستأخذ حياته اليومية منحى مغاير لما كانت عليها من قبل، فالمحاكمة الذاتية للنفس.. قيامة صغرى
 

* الخلاصة الثانية: قيل أن "الإنسان عدوّ ما يجهل" ولكنني أضيف لهذه العبارة ".. وأنه عدوّ أكبر لما يعرف"، فهو بين حين وآخر متقلب الفكر متبدل الرأي لا يعرف ما يصنع ولا يدري ما الأقوم لنفسه والأصلح لحاله حتى تصطدم معرفته التي يراها سمجة مملة بجهله الذي يراه مادة دسمة مغرية تثير فضوله، فيحدث أن يتمنى لو استمر جهله ومكث في علمه لا يبرح مكانًا غيره.

* الخلاصة الثالثة: العلم بالشيء تمام العلم شيء مطلق، ولا يمكن للمرئ أن يصيبه كاملًا، قد يصيب جزئه وبعضه.. بحدس أو تخمين أو اجتهاد، لكن الفصل في أمره وتفنيده كاملا هو شأن "العليم".

* الخلاصة الرابعة: حتى وإن كانت الرواية غير حقيقية وفيها من الأحداث الخيالية الكثير، إلا أن الموعظة فيها لا تدس نفسها، وهذا الجانب جانب تربوي بحث للنفس، فبين كل سطر تقرأه وكل موقف يسلكه بطلها في حياة ما بعد الموت ستسألك نفسك وماذا عني؟! ويدور حوار بينكما.. وهذا الحوار من شأنه أن يوقظك من الغفلة التي تغط فيها عميقًا، وتتدارك ما فاتك وتحسن القرار في ما هو آت.

* الخلاصة الخامسة: آخر المطاف ستنتهي رحلتك مع الرواية فتكون كمن يقف فوق قمة جبل.. يرى الطرق التي سلكها وسعى لها وتعثر فيها وسقط وقام وواصل مسيره، ويتذكر (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ) فصورة "البانوراما" الكاملة تلك كفيلة بأن تريك ما لم ترَ وتحملك لطرق كل حدود الخيال التي لم تطرقها من قبل.

أخيرًا من عاش في كنف الرواية، ستأخذ حياته اليومية منحى مغاير لما كانت عليها من قبل، فالمحاكمة الذاتية للنفس.. قيامة صغرى.. والطريق الذي لا يؤدي إلى الله، لا باستمرار نجاة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.