شعار قسم مدونات

"أَنُلْزِمُكُمُوهَا".. بين الإنهازمية والمقارنات السطحية

blogs القرآن الكريم

وصلتني وصادفتني أكثر من مرة على وسائل التواصل المختلفة صورة فيها قوله تعالى: (أَنُلْزِمُكُمُوهَا) للتدليل على الإعجاز والإيجاز في اللغة العربية ولإثبات ذلك تُرجمت هذه الكلمة المشتملة على حرف استفهام وفعل وضميرين إلى اللغة الإنجليزية: "Shall we compel you to accept it" وكُتِب أسفلها: "سبع كلمات إنجليزية لترجمة كلمة عربية واحدة!".

ولعلي أعتذر لهذه المقارنة بما يأتي:
أولًا: أنها تهدف إلى بيان ثراء العربية وقدرتها على أن تكون لغة للعلوم المعاصرة، أو لغرض إظهار أفضليتها على غيرها من ناحية لغوية، أو لإثبات إعجاز القرآن الكريم. وهذه المقارنة السطحية غير السليمة ليست سبيلًا إلى أي مما سبق.

ثانيًا: أنها لغرض الانتصار للعربية. أهكذا ننتصر للغتنا؟! إنما يُنتصر لها بالاهتمام بها، والحفاظ عليها، والتعلّم بها، وإثراء محتواها العلمي والبحثي، والتصدي لمحولات اقصائها من المجالات العلمية. فلا يصح التفاخر بلغتنا كإرث والاكتفاء بمقارنته بغيره مقارنة عوراء دون القيام بواجبنا تجاهها في بذل جهود أكبر في تعريب العلوم والمصطلحات والتعليم والاستفادة من تجارب أمم أثبتت قابلية ذلك، كالصين واليابان على سبيل المثال.

هناك الآلاف من اللغات المندرجة تحت مئات المجموعات اللغوية الفرعية المندرجة هي الأخرى تحت عشرات العوائل اللغوية، وكلها تخضع لتصنيفات كثيرة وخصائص وأنماط نحوية ولسانية وتركيبية مختلف

سأتناول إشكالية هذا الطرح من ناحية لغوية بسيطة في مقال غير منطلق من الشعور بالدونية، وغير هادف للتقليل من شأن اللغة العربية التي أعتز بها. كما أن ليس لغرض تفصيل وبيان الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم، وهو قطعًا ليس لنفي هذا الإعجاز. ولن يتناول هذا المقال مسألة تفوق اللغة العربية على غيرها من اللغات وأفضليتها، فاختيار الله سبحانه وتعالى العربية لغة لكتابه الكريم لا شك يضفي على العربية أفضلية دينية وميزة الحفاظ على فصحاها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

لا يصح الاستدلال على الإعجاز اللغوي القرآني بمقارنته بلغة غير العربية، لا باللغات السامية ولا غير السامية. وتناول إعجاز القرآن الكريم، وأسلوبه البلاغي، وبيانه، وفصاحته، وحسن تفصيله، وإيضاحه ليس بحاجة إلى إثبات بمقارنته بالإنجليزية أو الفرنسية أو غيرهما. كما أن الإعجاز القرآني هو إعجاز لغوي عربي. معجز لأهل اللغة الناطقين بها وغير القادرين على الإتيان بمثله، "قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا".

من ناحية لغوية بحتة فإن إعجاز النص القرآني العربي لا يعني بالضرورة عجز اللغات الأخرى عن أداء مهمتها التواصلية، ولا يعني أن اللغات الأخرى، كاللغة اليابانية مثلا (المنتسبة في بعض التصنيفات إلى عائلة اللغات الألطية) أو اللغات الجرمانية كالألمانية والإنجليزية (المنتسبة إلى عائلة اللغات الهندية الأوربية)، هي لغات بدائية ومستحقرة. كما أنه من الصعوبة بمكان الخروج بنتيجة قطعية لسؤال "ما هي أفضل اللغات؟".

هناك الآلاف من اللغات المندرجة تحت مئات المجموعات اللغوية الفرعية المندرجة هي الأخرى تحت عشرات العوائل اللغوية، وكلها تخضع لتصنيفات كثيرة وخصائص وأنماط نحوية ولسانية وتركيبية مختلفة. فهناك لغات إلصاقية، وهناك لغات عازلة، ولغات تصريفية، واشتقاقية، وتركيبية. هناك لغات يتقدم فيها الفعل على الفاعل والمفعول به، وهناك لغات عكس هذا وهناك لغات غير ذلك. هناك لغات ليس فيها تأنيث وتذكير، وهناك لغات ليس فيها مثنى. فكل لغة تمتاز بخصائصها ومميزاتها ويصلح فيها ما لا يصلح في غيرها.. "وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ". ويبدو لي أن ما نعانيه من استلاب وانهزامية وشعور بالدونية قد تسرب أثره حتى في ردات فعلنا غير الصائبة لإثبات أفضلية العربية وتفوقها وإعجاز القرآن. فنحن مولعون بمقارنتها باللغات الجرمانية (خصوصًا الإنجليزية) وكأن العالم لم يعرف لغات غير الإنجليزية والعربية.

إن اللغة العربية غير معجزة في ذاتها، وإلا لما كانت لغة بشرية تؤدي غرضها التواصلي. إنما الإعجاز في الأسلوب الإلهي المعجز الذي نزل القرآن. ولو شاء الله لأنزل القرآن بلغة أخرى يعجز أهلها عن الإتيان بمثله كذلك، وما ذلك عليه بعزيز، "وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ". الإلصاق كخاصيّة لغوية ليس كما يتوهم البعض بأنه الإيجاز، الذي بمعنى حذف الفضول عند الجاحظ والذي اعتبرته العرب البلاغة الحقة، وكلا من الإيجاز والإلصاق غير مقتصر على العربية ولا خاصٌ بها.

عملية ترجمة القرآن هي عملية ترجمة لمعانيه، وغرضها الإفهام وبيان المعنى المراد، لذلك يلاحظ أنها ذات طابع تفسيري
عملية ترجمة القرآن هي عملية ترجمة لمعانيه، وغرضها الإفهام وبيان المعنى المراد، لذلك يلاحظ أنها ذات طابع تفسيري
 

ومن ناحية أخرى، فهناك مصطلحات علمية ومفردات إنجليزية، وتركية، وألمانية، ويابانية، وفارسية، وتاميلية، وروسية، وغيرها ليس لها مقابل عربي في مفردة واحدة، وهذا لا يعيب. ولا هو بحد ذاته علامة على أفضلية لغة أو ضعف أخرى في الميزان اللغوي البحت، فالعبرة إنما تكون في تأدية اللغة لوظيفتها التواصلية وقدرتها على التجدد ونحت المصطلحات وقلة الاعتماد على النقحرة (النقل الحرفي). فاللغة ابنة بيئتها وهي دائما في تجدد لتلبية مختلف ظواهر هذه البيئة، ولذلك كثيرًا ما نجد مصطلحًا ما يعبّر عن حالة معينة في بيئة أهل اللغة وحينما يُترجَمُ إلى لغة أخرى ذات بيئة مغايرة فإن الترجمة تتعدد ألفاظها.

كما تجدر الإشارة إلى أن عملية ترجمة القرآن هي عملية ترجمة لمعانيه، وغرضها الإفهام وبيان المعنى المراد، لذلك يلاحظ أنها ذات طابع تفسيري يميل بحسب الحاجة إلى التفصيل أحيانًا والإيجاز أحيانًا، ولا يهدف إلى الاختصار أو تقليل الألفاظ، إنما يتأثر بخصائص اللغة المٌترجَمِ إليها. ومما سبق نستنتج وهْن هذا الطرح غير الموفّق والناتج عن سوء تصور المسألة من ناحية لغوية ينتج عنه عقد مقارنات لغوية سطحية.

ولعلي أعقد مقارنة بين اللغة العربية والسواحلية من حيث أنهما من اللغات الإلصاقية (اللغات الإلصاقية ليست إلصاقية دائما إنما تصنّف كذلك بما يغلب فيها. كما أن اللغات العازلة ليست عازلة دائمًا بل تتفاوت نسبة العزل فيها بحسب اللغة كالصينية والإنجليزية). فهذه المقارنة هي بين العربية وهي من اللغات السامية، وبين السواحلية وهي من لغات البانتو المندرجة تحت عائلة اللغات النيجرية الكنغولية غير ذات العلاقة باللغة العربية (1). من الإنجليزية "I will kill you" وتترجم إلى العربية: سأقتلك وإلى السواحلية: "Nitakuua" وتفصيلها: "Ni: I"، "Ta: will" ، "Ku: you" ، "Ua: kill".

وإذا نظرنا في ترجمة قوله تعالى "أَنُلْزِمُكُمُوهَا" إلى السواحلية نجدها: "je، tukulazimisheni kuikubali" والترجمة العكسية إلى العربية تكون: (هل نلزمكم بقبولها) في ثلاث ألفاظ تُظهر الأسلوب التفسيري الذي يغلب على ترجمات معاني القرآن الكريم. فهل يصح أن نستنتج من هذه المقارنة أن السواحلية انتصرت على الإنجليزية والصينية أو أنها قاربت الانتصار على العربية؟ لا. 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هوامش:
(1) أشكر الصديق المتعدد اللغات الأستاذ محمد إدريس على تزويدي بنماذج لغوية لم يتسع المجال لذكرها كلها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.