شعار قسم مدونات

الأمة الغالبة والأمة المغلوبة

مدونات - المسلمون والغرب يصلون
إن انتماء الأمم إلى هويتها وإلى ما يميزها من بين الأمم أمر طبيعي تعرفه النفوس السليمة من وحي المشاعر، وإذا مرضت النفوس، سَئِمَتْ ذَاتَها، وسعت إلى استبدال هوية مكان هويتها، وفرض ثقافةٍ محلَّ ثقافتها، لأنها نفس ملَّت نفسها. وإذا عادت النفس إلى طبيعتها وشفيت من مرضها، دبت في أمجادها الحياة، وعادت إليها أرواح تاريخها بعد الممات. والمرض الذي يوقع النفس في هذه الهاوية هو الغلبة، فالمغلوب كثيرًا ما يسير في فلك الغالب بلا مبالاة لصحة صوب الغالب أو خطئه. والتاريخ يحدثنا عن عجائب في هذا المضمار، يطول بحصرها هذا المقال، وسأذكر على ذلك مثالًا واحدًا، فاللبيب بالإشارة يفهم..
 
كانت الحروب الصليبية التي استمرت قرنين من الزمان من الجسور التي انتقلت فيها ثقافة الغالب إلى المغلوب. فأمة الإسلام حينئذ بثقافتها وتاريخها واختراعاته وعلومها وأزيائها كانت هي الغالبة، رغم الضعف الذي كانت تمر به. فكانت ثقافة الأمة الإسلامية هي السائدة وإن وقعت لهم خسائر عسكرية في بعض الأقطار. والصليبيون، رغم تحقيقهم لبعض مآربهم ورغم إثخانهم في جسد الأمة، كانوا هم المغلوبين ولذلك فإنهم كانوا يقطفون من ثمار ثقافة المسلمين الغالبة ما لذ لهم وطاب. يصف الدكتور المرحوم مصطفى السباعي في كتابه (من روائع من حضارتنا) تأثر الصليبيين بالمسلمين وتقليدهم لهم قائلا:

"ولهذا فقد كثر تقليد الصليبيين للمسلمين -لا العكس كما حدث في حروب الاستعمار الحديث نظرًا لاختلاف الصورة- حتى كانت بعض طبقات الصليبيين تفرض على نسائها وبناتها -إذا بلغن الحلم- أن يضربن الخمار على وجوههن، ويأبون عليهن أن يخرجن إلى الأسواق سافرات، بل إنهم ما كانوا يسمحون لهن بالخروج إلا للضرورة القصوى، كالذهاب إلى الكنائس والحمامات. كما أطلق بعض الرجال الصليبيين اللحى تَشَبُّهًا بالشرقيين، وكانوا يستعملون النعال التي يستعملها المسلمون في بيوتهم.."

ما الحيلة للخلاص من هذا الذي صارت إليه نفوس بعض المسلمين من التقزز والنفور والضجر من كل ما له صلة بدينهم نظرًا لحالة المسلمين التي يرثى لها ولغلبة غيرهم عليهم في كثير من بقاع الأرض؟

ثم لما صارت الغلبة للغرب، أخذت شرائح من الأمة الإسلامية تسير بسيرهم وتتلون بلونهم وتتجمل بأزيائهم وتفتخر بلغاتهم لما تفرضه الغلبة على المغلوب. وابن خلدون يبين سبب ذلك في مقدمة تاريخه إذ يقول: "والسَّبَبُ في ذلك أنّ النّفس أبدًا تعتقد الكمال في من غلبها وانقادت إليه إمّا لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه أو لما تغالط به من أنّ انقيادها ليس لغلب طبيعيّ إنّما هو لكمال الغالب. فإذا غالطت بذلك واتّصل لها، صار اعتقادًا فانتحلت جميع مذاهب الغالب وتشبّهت به وذلك هو الاقتداء. أو لما تراه -والله أعلم- من أنّ غلب الغالب لها ليس بعصبيّة ولا قوّة بأس، وإنّما هو بما انتحلته من العوائد والمذاهب، تغالطًا أيضا بذلك عن الغلب. وهذا راجع للأوّل، ولذلك ترى المغلوب يتشبّه أبدًا بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه في اتّخاذها وأشكالها، بل وفي سائر أحواله".

 
ولذلك لا يتعجب من ارتداء الصليبيات للخمار وتغطيتهن وجوههن وإطلاق الصليبيين لحاهم في زمن كانت الثقافة الغالبة هي ثقافة المسلمين كما أنه لا يتعجب من سفور نساء المسلمين في العصور المتأخرة وحلق رجال المسلمين لحاهم ومحاربة بعض المسلمين هاتين السنتين أشد من محاربة كثير من الغربيين لهما. وذلك لأن مرض المغلوبية قد استحكم في نفوس هؤلاء حتى صاروا يظنون أن الغرب إنما فاق المسلمين بالسفور وحلق اللحى وما شاكله من المنكرات. وقد بلغ ببعضهم الحال إلى أن جعلوا النقاب وصمة عار تعرف بها المتشددات، فقد جاء في بعض الكتب المعاصرة لرجل ينتسب إلى العلم الشرعي فصل بعنوان: "تميز المتشددات بالنقاب". فجعل هذا الكاتب النقاب صفة تتميز به المتشددات. وهذه الجرأة على فضيلة اتفقت عليها كلمة المسلمين إجمالًا، ما كانت لتكون لولا داء المغلوبية. ولست هنا بصدد الخوض في ترجيح وجوب النقاب أو استحباب الخمار من غير نقاب أو جواز ذلك، لكنَّ رمي المتنقبات بالتشدد أمر يأباه العقل الذي قد وعى أن المسلمين اتفقوا على هذه الفضيلة وإنما اختلفوا في وجوبها أو استحبابها أو جوازها.

وهذا مظهر واحد من مظاهر المغلوبية، وإلا فالمظاهر كثيرة لا تحصى. منها مثلًا، محاربة كتب الفقهاء وأئمة الإسلام والمقررات الدينية التي ورثها المسلمون كابرًا عن كابر، ولم يعرفوا سواها على مدى تاريخهم، بدعوى أنها تحتوي على التطرف والتشدد. وهذه الدعوى لا يتعجب منها إذا صدرت من شخص لا ينتمي إلى أهل الإسلام لكنَّ صدورها من مسلم لا تفسير له يستقيم سوى أن غلبة الآخرين قد سيطرت على نفسه حتى صار يتخيل فضيلة تراث أمته رذيلة. وليعجب المرء إذا علم أن جامعات الغرب أنفقت وتظل تنفق مئات الآلاف من الدولارات والجنيهات كي تحتفظ بمخطوطات المسلمين في مكتباتها لما لها من قيمة علمية أكاديمية كبيرة، بينما أبناء المسلمين يَتَقَزَّزُون أو يُقزَّزُون من موروثهم الديني والثقافي وتاريخهم الخالد بمثل هذه الدعاوي الساقطة.

 
إذا رضي العبد بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد ﷺ نبيًّا، غاب عنه السراب الذي يُخِيِّلُ له أن الغالب إنما صار كذلك لأنه كامل
إذا رضي العبد بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد ﷺ نبيًّا، غاب عنه السراب الذي يُخِيِّلُ له أن الغالب إنما صار كذلك لأنه كامل
 

وقد ورد عن النبي ﷺ بأسانيد ضعيفة: "لا تفنى هذه الأمَّةُ حتَّى يلعَنَ آخرُها أوَّلَها". وهذا الحديث وإن كان ضعيف الإسناد إلا أنه قد تحقق ما يشير إليه وهو لعن آخر الأمة أولها فقد سَبَّ قوم الصحابة والتابعين وتابعيهم وانفرط العقد الذي كان يحفظ هيبة الدين من بعدهم. ولك أن تسأل: ما الحيلة للخلاص من هذا الذي صارت إليه نفوس بعض المسلمين من التقزز والنفور والضجر من كل ما له صلة بدينهم نظرًا لحالة المسلمين التي يرثى لها ولغلبة غيرهم عليهم في كثير من بقاع الأرض؟ والجواب أن دواء هذا الداء مركب من عناصر كثيرة من أهمها الثقة: الثقة بالله في أن الله ناصر دينه ولو بعد حين، والثقة بالمفاهيم التي يتضمنها الإسلام وأنها ما شرعت إلا لمصالح العباد، والثقة بأن نبينا هو الرحمة المهداة والنعمة المسداة إلى العالمين. وهذه المفاهيم الثلاثة هي التي يشير إليها الذكر النبوي من جوامع كلمه ﷺ الذي أخرجه أبو داود وغيره عن أَبَي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "مَنْ قَالَ: رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ".‏

فإذا رضي العبد بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد ﷺ نبيًّا، غاب عنه السراب الذي يُخِيِّلُ له أن الغالب إنما صار كذلك لأنه كامل، لأن هذا العبد قد تشرب اعتقاد الكمال في الله، وفي دينه، وفي هدي نبيه، فحينئذ لا يبقى شيء يميز الغالب في مخيِّلة المغلوب إلا أنواعًا من القوى المادية التي تتفاوت فيها الأمم وتتدافع عليها. ومما يتردد على ألسنة كثير من المغلوبين نفسيًّا في بلدان المسلمين "أن الدين هو الذي يقف عائقًا دون التقدم، ولولا عوائق الدين لكانت حالتنا غير التي نراها اليوم." ولعلهم أصابوا من حيث أخطأوا، فقبل الدين كانت الأمة العربية أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب ولا تبني وما كانت لها عواصم تقصد ولا مبان تزخرف ولا أمجاد تذكر ولا حضارة تشكر وكانت الجزيرة العربية تضم مجموعة من القبائل الرحل يخيمون على الماء حيثما وجدوه، ولما جاء الدين -الذي يظنه بعض من ذٌكِرَ هو العائق- صارت لهم الدولة والصولة وطار ذكرهم في الشرق والغرب وذاع صيتهم في السلم والحرب وعرفهم القاصي والداني.

ولعلي أختم هذه المقالة بنص من كلام ابن خلدون -رحمه الله تعالى- يبين فيه أهمية الدين في إقامة الدول العظيمة وهو المؤرخ الذي أحرز قصب السبق في العلوم الاجتماعية بشهادة أهل الشرق والغرب: "وسرّه أنّ القلوب إذا تداعت إلى أهواء الباطل والميل إلى الدّنيا حصل التّنافس وفشا الخلاف وإذا انصرفت إلى الحقّ ورفضت الدّنيا والباطل وأقبلت على الله، اتّحدت وجهتها فذهب التّنافس وقلّ الخلاف وحسن التّعاون والتّعاضد واتّسع نطاق الكلمة لذلك، فعظمت الدّول…"

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.