شعار قسم مدونات

رهائن الطلاق..

blogs رهائن الطلاق

تَسْقُطُ أوراق التَّقويم السَّنَوِيِّ كُلَّ يوم، لَكِنَّها تبقى معلقة بقلوبنا تأبى أن تغادر أَزِقَّة الألم كُلَّمَا حَلَّتْ الذِّكرى، اليوم مَرَّ ربع قرن عن مولدها، كَكُلٍّ المشاعر المختلطة الَّتِي تصطدم بها، بين الفرح والخوف، الفضول والذهول، يُحشر الأب خلال الشهور الأولى في زاوية المراقبة من بعيد، كَائِنٌ صغير يحمل الكثير من الملامح الهاربة من صورك القديمة، يدخل حياتك ببكائه اللَّيْلِيِّ الطَّوِيلِ، ونومه المستمر، يَتَغَيَّرُ كُلُّ شيء، حتى نبضات قلبك تنتعل صراخه لتعلو، وَمَرَّضَهُ لتستنفر، الأُبُوَّةُ ميزان الحياة.

أَكْتُبُ لك اليوم ولا أدري أما زال ساعي البريد يمتهن إيصال المشاعر الجميلة في أظرفة بُنِّيَّةٌ، يتعب طويلا في البحث عن صاحبها، يُفَتِّشُ عنه في شوارع الحنين، بعد أن ضاع عنوانه في عَمَلِيَّةِ تَجْدِيدٍ للمدن والأحياء، أكتب لك بعد السَّادِسَةَ مَسَاءً، قبل أن أخدر موضع الوجع بِمُسَكِّنَاتِ منحها لي الطَّبِيب، بعد عجزه عن التَّشْخِيص، فمريض القلب يصعب الكشف عنه، نحن نذهب لنبوح لا لنشفى، ولنبكي لا لنسمع النَّصَائِحَ والإرشادات، كبرنا عن تناول الدَّوَاءِ يا بُنيتي.

خلف كُلِّ القصص الَّتِي ترويها لك صديقتك عن والدها، وبعد كُلِّ يَدٍ تُصَادِفُكِ في الشارع لِاِبْنَةٍ تَشُدُّ والدها كنت أَتَضَرَّعُ إلى الله كُلَّ ليلة أن تَمُرَّ هذه الصُّوَر دون أن تحفر شيئا بقلبك

قد تصلك هذه الرِّسَالَةُ وأنت تتجهزين للخروج إلى الجامعة، أو تَتَأَهَّبِينَ لشراء فستان الزَّوَاجِ، ستهملينها بِحُجَّةِ الوقت الضَّيِّق، وَالتَّأَخُّر عن كُلِّ طارئ، وقد تتوه في مكتبتك تشاطر الكتب القديم رياح الغبار، لكن لن أعاتبك حَتَّى لو كانت غذاء لِسَلَّةِ المهملات، دَوْمًا لنا في الاحتمالات فرح نَتَخَيَّلُهُ، وعذر ننسجه، تؤلمنا الإجابات القطيعة، نعشق " لو " و " رُبَّمَا "، تبقينا هذه الأرجوحة قيد الحُبِّ، تُدَثِّرُنَا من صقيع الحقيقة المُرَّةِ، الحقيقة الَّتِي نغمض أعيننا عند رؤيتها، ونهرب خلف الظروف مخافة أن تمسكنا.

يَزُجُّ الآباء وَالأُمَّهَاتِ أبنائهم في زوايا الخلافات، يضعونهم في مُنْتَصَفِ العلاقة، يجعلونهم شُهُودًا لِكُلِّ الجولات الحامية بينهم، جمهور لحلبة لن يتوقف العرض إِلَّا بسقوط أحدهم، فيضيع الطِّفْلُ بين مصفق للمنتصر، أو رافع لمنديل أبيض خَوْفًا على المنهزم، نجرهم إلى المحاكم ليفصلوا في مصيرهم بعد الطلاق، يسألهم القاضي أسئلة لا أجوبة لها، مع من تريد أن تعيش؟، سُؤَالٌ لو طرح على شيخ طاعن في السِّنِّ، لفكر ما تبقى من عمره العقلي، يجيب الطِّفْل بعد أن خضع لجلسة تَحْفِيظٍ وَتَلْقِينٍ، جلسة سوداء بها كُلُّ العيوب المنتشرة فوق الكرة الأرضية، تغرقها محيطات الكره والحقد، ليصوغ الطفل جملة بائسة، أَوَدُّ البقاء مع أبي أو أمي.

في الحياة ثَمَّةَ مشاهد لن تٌحذف مهما حاولت تكسيرها وَالرَّقْصَ فوقها، تخَدِّشُك بمجرد العودة لها، تُدْمِيك بعض الكلمات في كُلِّ مكان، صالحة لوظيفتها مهما طال بها العمر، لا يمكن للفرد أن ينسى خيانة عُضْوٍ من أعضاءه، حين يَطْلُبُ القلب مغادرة صدرك، فَتَّرَاهُ ماشيا أمام عينك، تَوَدُّ اللحاق به عساه يتراجع قَلِيلًا، فتعيدك السَّلَاسِلُ والقيود من قرارات وأحكام قَضَائِيَّةٌ، أُحِبُّكِ بحجم كُلِّ قرار نهائي لم يستأنف فيه، أُحِبُّكِ برغم كُلُّ المحاضر التي تحدثي فيها بِسُوءٍ عَنِّي، أُحِبُّكِ برغم كل كِذْبَةٍ بيضاء لم تعرفي الخديعة الَّتِي تَخْتَبِئُ خلفها.

يَتَّخِذُ الأطراف بالزواج من كُلِّ الوسائل المشروعة والغير مشروعة حُجَّةٌ لكسبهم الصِّرَاع، ويُهَدِّدُونَ بعضهم بفلذات كَبِدُهُمْ
يَتَّخِذُ الأطراف بالزواج من كُلِّ الوسائل المشروعة والغير مشروعة حُجَّةٌ لكسبهم الصِّرَاع، ويُهَدِّدُونَ بعضهم بفلذات كَبِدُهُمْ
 

قد تصلك هذه الرِّسَالَةُ بعد أن فَتَّشَتْ جَيِّدًا عن اسمي في خانة الأموات، لِتَسْتَنِدِي على كلمة يتيمة وتضعي فوقها وِزْرَ التَّخَلِّي والغياب، لم تكوني كذلك، كُنْتِ يتيمة لِقَاءَاتٍ أجهضتها والدتك، خلف كُلِّ القصص الَّتِي ترويها لك صديقتك عن والدها، وبعد كُلِّ يَدٍ تُصَادِفُكِ في الشارع لِاِبْنَةٍ تَشُدُّ والدها كنت أَتَضَرَّعُ إلى الله كُلَّ ليلة أن تَمُرَّ هذه الصُّوَر دون أن تحفر شيئا بقلبك، أن تمري خفيفة فوق جسور الحقد، أن تَتَقَبَّلِي كل هذه المشاهد الجميلة بصبر وحب، أن لا تَسْتَقِرَّ الغُصَّةُ بحياتك وتصبح الأحلام بطعم التَّمَنِّي العقيم.

في الحَرْبِ كما في الزَّوَاجِ يا طِفْلَتي، يَتَّخِذُ الأطراف من كُلِّ الوسائل المشروعة والغير مشروعة حُجَّةٌ لكسبهم الصِّرَاع، بعد أَنَّ تضيق بهم مُدُّنُ الوفاق، رهائن الطَّلَاق ليسوا في معزل عن هذه الصَّفَقَات، يُهَدِّدُونَ بعضهم بفلذات كَبِدُهُمْ، ضعيف الحب، رقيق المشاعر ينسحب دون أن يُسَجِّلَ اِنْتِصَارًا وَاحِدًا، منهزم في كُلِّ الحالات، يُغْرِمُهُ القانون، وَيَقْسُو عليه المجتمع، يرحل في صَمْتٍ تاركا خلفه ساحات الضَّجِيجِ، وأسلحة التَّخْمِينَات، لَيْسَ علينا الفوز دَائِمًا، فالكثير من المعارك سنفوز به لَاحِقًا بعد أن يضع الله الظالم في خانة المظلوم، وتتساوى الظُّرُوفُ والمحن، وَنَمُرُّ جميعا بعاطفة الأُبُوَّةِ أو الأمومة، يومها فقط سنعبر نفس الطَّرِيقِ، وَنُرَدِّدُ نفس القرار، وَنَتَبَادَلُ مناديل الوجع لنفهم بعضنا جَيِّدًا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.