شعار قسم مدونات

فنيات الترجمة الفورية (4)

blogs مترجمين

لقِيَت الحلقات الثلاث السابقة من "فنيات الترجمة الفورية" اهتماماً بالغاً من قبل القراء، خاصة من الذين هم خارج مجال الترجمة. وتلقيت رسائل عديدة تمجد محتوى تلك الحلقات، مما يدل على أن مجال الترجمة هو مجال ثقافي عام يستهوي الناس من مختلف التخصصات. وقد عبر لي بعضهم عن دهشتهم وهم يطلعون على تفاصيل فنيات الترجمة الفورية والإجراءات الذهنية التي يقوم بها المترجم أثناء ممارسته لمهنته. مصدر هذه الدهشة أن بعض الناس يعتقد أن الترجمة الفورية يقوم بها جهاز حاسوب ولم يدُر بخلدهم أن شخصاً يجلس داخل صندوق صغير هو الذي يقوم بمهمة شاقة لجسر الهوة اللغوية والثقافية بين الناس!

 

سنركز في هذه الحلقة الرابعة على مكانة المترجم في الدول العربية بالمقارنة مع مكانته عند الأفارقة لندرك بعضاً من أسباب تقهقر العرب ثقافياً وفكرياً، ونذكر أهم فوائد الترجمة عموماً والترجمة الفورية خصوصاً بالنسبة للمترجم. وهذه الفوائد هي بمثابة مكافئة للمترجم على الجهد الذي يبذله في عمليه إزالة الحواجز اللغوية والثقافية بين الشعوب.

 

نظرة المسؤولين في العالم العربي للمترجم لا تتجاوز كونه سكرتيراً أو على أحسن تقدير موظفاً صغيراً، بل أحياناً يتعاملون مع المترجم كما لو كان آلة!

عندما نذهب إلى المؤتمرات في أفريقيا نلاحظ اهتماماً بالغاً بالمترجمين من حيث تسليمهم أوراق المؤتمر وبنود الاجتماع قبل وقت كاف للاطلاع عليها والاستعداد، وترتيب أمور سفرهم وسكنهم وراحتهم عموماً قبل بدء المؤتمر. وفي داخل قاعة المؤتمر تحتوي مقصورة الترجمة على الإضاءة الكافية ومناديل الورق وقوارير الماء وطاسة حلوى ودفاتر وأقلام وكراسي مريحة تكون أحياناً مختلفة عن الكراسي التي يجلس عليها الجمهور.

 

هذا فضلاً عن وجود عامل يقف على خدمة المترجمين يسألهم كل مرة إذا كان كل شيء على ما يرام. وفي نهاية المؤتمر يحرص المنظمون على شكر المترجمين ضمن الجهات التي يوجه لها صوت الشكر لمساهمتهم في إنجاح المؤتمر. وينبع هذا الاهتمام البالغ من المسؤولين الأفارقة بالمترجمين عن شعورهم العميق باستحالة التواصل فيما بينهم بدون وجود المترجمين خاصة بين الدول الفرنكوفونية والأنغلوفونية. هذا بالإضافة إلى أن مهنة الترجمة أصلاً تحظى بمكانة مرموقة في الثقافة الغربية وهي الثقافة السائدة في أفريقيا عموماً.

 

أما في العالم العربي فنظرة المسؤولين للمترجم لا تتجاوز كونه سكرتيراً أو على أحسن تقدير موظفاً صغيراً، بل أحياناً يتعاملون مع المترجم كما لو كان آلة! فمثلاً يعطونك عدداً من الصفحات ويريدون ترجمتها الآن! لذلك لا يلقى المترجم أدنى اهتمام كما هو الحال في أفريقيا والعالم المتحضر. يحصل المترجم على أوراق المؤتمر قبل دقائق من بدء المؤتمر، بل يدخل المترجم مقصورة الترجمة ولا يعرف موضوع المؤتمر! وقد يدخل مقصورة الترجمة ولا يجد حتى الكرسي الذي يجلس عليه، ناهيك عن الأشياء الأخرى. وفي نهاية المؤتمر يوجه صوت الشكر لكل من ساهم في إنجاح المؤتمر ولا يشار ولو بكلمة إلى المترجمين! قد تكون هناك استثناءات ولكن هذا هو الوضع الطبيعي في العالم العربي بصورة عامة.

 

ومن هنا ندرك سبب التقهقر الحضاري عند الشعوب العربية وقابليتهم للاستلاب الفكري، فضلاً عن خلو مجالس عبر مختلف المنصات إلا من النميمة والنكات والغناء. أما الفكر والثقافة لم يعد لهما مكان عند العرب، بدليل أن حركة الترجمة في أي دولة أوربية تضم بضعة ملايين من السكان تتجاوز حركة الترجمة في البلاد العربية جميعها التي يبلغ تعدادها السكاني 250 مليون نسمة!! هذا موضوع آخر قائم بذاته يستحق دراسة لحاله.

 

للترجمة الفورية فوائد تتجاوز الكسب المادي، أهمها:

الكسب المعرفي: لا شك أن المترجم في إطلاع مستمر ليس لمعرفة مصطلحات جديدة فحسب، بل الاطلاع على كل جديد وفي كل مجال ومعرفة المفاهيم الأساسية. فالمؤتمرات التي تقام تناقش أساساً السياسات والتوجهات والقضايا الناشئة، والعلاقات البينية وأمور شتى في مجالات السياسة والفن والأدب والاقتصاد والمال والمجتمع وغيرها. والمترجم ليس مجرد ناقل وإنما مستوعب في المقام الأول ثم يأتي النقل. وبالتالي فإن استيعاب المترجم لما يدور في المؤتمرات أعمق من استيعاب الحضور الذين جاءوا أصلاً وربما دفعوا مبالغ ليحضروا المؤتمر. أضف إلى ذلك فإن المترجم يترجم في برامج تدريبية يدفع لحضورها المتدربون مبالغ كبيرة، بينما يحضرها المترجم مجاناً. هذا كله يؤشر إلى أن المترجم في تعلم وكسب معرفي مستمر.

 

يتاح للمترجم فرصة السفر إلى بلدان مختلفة والسكن في الفنادق، حيث تتولى  الجهات التنظيمية هذه التكاليف
يتاح للمترجم فرصة السفر إلى بلدان مختلفة والسكن في الفنادق، حيث تتولى  الجهات التنظيمية هذه التكاليف
 

الالتقاء بصناع القرار: يتاح للمترجم فرصة الالتقاء بصناع القرار وكبار المسؤولين وهو أمر غير متاح بنفس القدر لأصحاب المهن الأخرى، علماً بأن لقاء بعض صناع القرار في الظروف العادية يعد أمراً مستحيلاً نظراً للعوائق البروتوكولية. وبالتالي فإن لقاء صناء القرار وراسمي السياسات يتيح للمترجم فرصة التعرف عليهم عن قرب ومعرفة الاتجاهات الفكرية التي تؤثر عليهم في اتخاذ القرارات ورسم السياسات. هذا يعني أن المترجم يطلع على حقائق الأوضاع بخلاف ما يظهر في الإعلام، بمعنى الاطلاع على ما يدور خلف الكواليس ومعرفة خارطة الأحداث.

 

الأسفار وفوائدها: يتاح للمترجم فرصة السفر إلى بلدان مختلفة والسكن في الفنادق، حيث تتولى الجهات التنظيمية هذه التكاليف وقد لخص الإمام الشافعي فوائد الأسفار بقوله:

 

تَغرّبْ عن الأوطان في طلب العلا .. وسافر ففي الأسفار خمس فوائد

تفرج هم واكتساب معرفة .. وعلم وآداب وصحبة ماجد

 

ومن هنا فإن المترجم هو شخص ذو ثقافة عالية يكاد يتخصص بمرور الزمن في كل مجال، فهو أديب وقانوني وسياسي واقتصادي ومفكر، أو هكذا يجب أن يكون، حتى يتمكن من كسر الهوة اللغوية بين الناس في كل المجالات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.