شعار قسم مدونات

عندما يكون النقد هدفًا.. تصبح السخرية أسلوبًا

blogs الكاريكاتير

من منا لا تثيره تلك الرؤوس المفلطحة والأنوف المعقوفة والشفاه الممطوطة وإلى ما هنالك من أشكال المبالغة والتهكم والسخرية عند تصفحه لأعمدة الصحافة فتراها خربشات عبارة عن خطوط ومنحنيات تحتل حيز ضئيل من زوايا الجرائد والمجلات لكنها تغزوا مجال التأثر لدى المتلقي أو المستقبل بل تقوم على أساس الحس النقدي ولا شيء غيره فالكاريكاتير كفن مستقل بزغ من رحم الفنون التشكيلية ليقوم بهذا الدور. فما الإطار العام الناظم لهذا الفن؟ وما مقاربته التاريخانية؟ وهل استطاع التكيف مع بوصلة التاريخ من أجل حماية رسالته؟

الكاريكاتير كما يسميه أرسطو بالفن البشع هو شكل من أشكال فن الرسم الأكثر جذبا وهو قائم على المبالغة بالخطوط والريشة من خلال تحريف الملامح الطبيعية وخصائص شخص ما مع الاحتفاظ ببعض أوجه الشبه به أو ظاهرة اجتماعية أو حدث سياسي بهدف التهكم والسخرية أو النقد الاجتماعي والسياسي على خلاف المقال الذي يتناول موضوعا معين وإن كان ساخر ولاذعا فإن الرسم الكاريكاتيري المعبر عن المعنى ذاته مفهوم من الجميع بصرف النظر عن فئاتهم الاجتماعية ومستواهم الثقافي لما يتسم ببساطة في الطرح وعمق التأثير الجماهيري ومن هنا يستمد فن الكاريكاتير قوته كأداة صحفية ساخرة وناقدة.

أخذت الوجوه ذات المعالم المضخمة تظهر في أعمال فنية جدية ومنها أعمال انيبال كاراتشي الذي يؤكد بعضهم أنه أول من رسم بهدف الإضحاك

وهنا لابد من أن نعانق بوصلة التاريخ من أجل أن نوضح أن الكاريكاتير كفن مستقل تبلور بشكل تقريبي في أواخر القرن 18 وأوائل القرن 19 وبشكل أساسي في بلدان القارة العجوز على القاعدة الفنية لعصر النهضة الأوروبية لكن الكاريكاتير كفن مركب من عنصري التشكيل والكوميديا السخرية له جذوره القديمة الضاربة في فجاج التاريخ لدرجة يمكن القول أن الكاريكاتير ولد مع ولادة الإنسان وتعتبر الأديان القديمة من أهم منابع السخرية سواء في الأدب أو في التشكيل.

 

وحضارة أرض الكنانة هي الأغنى والأكثر تطورا في مجال الرسم الساخر إذ أنها تمتاز عن باقي الحضارات بأن الرسوم التي تعود لها تستمد مواضيعها من الحياة وليس من الأسطورة وتضفي عليها طابع فلسفي فلا تكتفي فقط بالفكاهة وإنما ترمز إلى أشياء أخرى، وكانت مواضيع المبالغة في الفنون القديمة قد استمدت بشكل أساسي من الأسطورة والحياة العامة للشعوب القديمة فقد جاء المسرح الساخر والأدب لكي يعطي دفعة جديدة لتطور الفن التشكيلي الساخر خاصة منها ما هو مستمد من الأسطورة حيث أن الأسطورة أصلا وجدت أدبيا قبل أن توجد تشكيليا فكل ما سبق يمكن اعتباره مقدمات تاريخية لظهور فن الكاريكاتير.

كان صاحب المبادرة ليوناردو دافتشي رائد الفن التشكيلي في عصره مما أعطى المجال للفنانين التشكيليين الأخريين للإقدام دون خوف على استخدام المبالغة في تنفيذ رسومهم وتصوير شخصياتهم وأخذت الوجوه ذات المعالم المضخمة تظهر في أعمال فنية جدية ومنها أعمال انيبال كاراتشي الذي يؤكد بعضهم أنه أول من رسم بهدف الإضحاك ومن أوائل الرسامين الذين مارسوا فن الكاريكاتير بالشكل القريب من الشكل المعاصر كان الإيطالي بيير ليونيه غيتسي الذي استخدم المبالغة في رسم ملامح الوجوه بهدف إثارة الضحك.

وفي القرن 17 ظهر فنانون احترفوا السخرية وتخصصوا بها حيث أخذت تظهر الاتجاهات التي تبتعد عن الكلاسيكيات وأخذت معالم الجمال المطلق من أعمال الفنانين ويحل محلها عناصر السخرية والمبالغة هذه الأخيرة وإن طبعت أعمال عدد من الفنانين إلا أن هذه المبالغة لم تسعى إلى النقد وأول من استخدم الرسم الساخر بهدف النقد كان الإنجليزي "وليم هوغارت" والذي يعتبر مؤسس اتجاه النقد الاجتماعي في الفن الأوروبي.

فن الكاريكاتير كان منذ نعومة أظفاره فنا موجها يستخدم كسلاح فعال في السياسة وذلك بحكم مضمونه الساخر
فن الكاريكاتير كان منذ نعومة أظفاره فنا موجها يستخدم كسلاح فعال في السياسة وذلك بحكم مضمونه الساخر
 

وفي النصف الثاني من القرن 18 بزغت مجموعة من الرسمين الإنكليز الذين يمكن القول أنه بظهورهم أرسى فن الكاريكاتير وجوده نهائيا كفن مستقل ورغم تأثرهم الواضح ب "هوغارت" فقد اشتهروا بشكل أساسي برسومهم الكاريكاتيرية الساخرة بالدرجة الأولى وفي رأس القائمة الإنجليزي رولا تدسون وهنري بانييري وجيمس غيلري هؤلاء جعلوا من الكاريكاتير فنا ذا شعبية خاصة حيث أن الشوارع والباحات اللندنية كانت تعج بالمتفرجين الذين كانوا يجتمعون أمام الواجهات التي تضم أعداد كبيرة من الرسوم الكاريكاتيرية، هذه الأعمال شكلت قفزة غير مسبوقة في مجال تطور الكاريكاتير حيث تحول بفضلهم إلى فن مستقل وتبلور أحد أنماطه الذي هو الكاريكاتير الاجتماعي ووضع شارة الأساس لنمطه المؤثر الذي هو الكاريكاتير السياسي.

وفي فرنسا ونتيجة للصراع الاجتماعي والسياسي الحاد في النصف الثاني من القرن 18 و19 ظهر عدد كبير من رسامي الكاريكاتير وصحف التي ساهمت في هذا الصراع وأعطت للكاريكاتير صفة الديمومة ومنهم "دومييه" الذي أخذ بممارسة الكاريكاتير السياسي بعد ثورة 1830 وهاجم برسوماته تقييد الحريات السياسية وظاهرة الاعتقال السياسي.

إن الكاريكاتير منذ ظهوره كفن على أعتاب القرن 18 انغمر في الصراعات الاجتماعية والسياسية حتى أذنيه وهذا بالتالي يدفعنا إلى التأكيد أن فن الكاريكاتير كان منذ نعومة أظفاره فنا موجها يستخدم كسلاح فعال في السياسة وذلك بحكم مضمونه الساخر وأول من استخدم الكاريكاتير كسلاح سياسي كان في فترة حرب الإصلاحات الدينية التي قادها مارتن لوثر ضد الكنيسة الكاثوليكية في الفاتيكان والذي يقول في أحاديثه داعيا إلى تكريس السخرية كسلاح في هذا الصراع ضد الكنيسة الكاثوليكية أن القساوسة والخوارنة يجب أن يرسموا على جميع الجدران وحتى على أوراق اللعب بشكل يجعل الناس يشعرون بالقرف عندما ينظرون إليهم أو يسمعون عنهم.

وهكذا يمكن القول أن الكاريكاتير دخل حيز القرن العشرين وما بعده فنا ضمن مكانه تحت شمس الفنون التشكيلية بعد مخاض طال مداه له قاعدته الشعبية الواسعة وله منابره الإعلامية بل الأهم رسالته النبيلة التي تدافع عن الإنسانية وحقوقها الكونية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.