شعار قسم مدونات

الراهبةُ التي ربّتْ مسلمينَ ويهوداً ومسحيينَ

مدونات - الراهبة ألفريد ماري

في حاراتِ دمشقَ القديمةِ بابِ توما تحديداً، تتموضعُ مدرسةُ البيزانسون، وهي بنظري ليست الأجملَ أو الأروع بين مدارسِ دمشقَ فحسب، بل لهذه المدرسة رمزيّة كبيرةٌ لعشرات آلاف السوريين والدمشقيين، وهي في الأصل بيتٌ عربيٌّ، تجدُ في أرضِ دياره بحرةً دمشقيّةً متوسطةَ الحجم، حولها شجرُ الكباد والنّارنج، وعلى يمينها كنيسةٌ صغيرةٌ، وعلى يسارها ديوانُ البيتِ العربيّ وقد تحوّل إلى إدارةٍ للمدرسة، كما تحوّلت كلّ غرفة من غرفِ المدرسةِ إلى صفٍّ وشعبة، ثمانية صفوف وثلاث شعب لكل صف، تدخلها في الرابعة من عمرك، وتتركها في الثانية عشر، كلّ من كان يدرّسُ بها نساءٌ ومعلّمات، وكلّ الطاقمِ المساعدِ من مراقباتٍ وغيرهن كانوا نساءً أيضاً، وكلهنّ يعملنَ بشغفٍ، كانت العلاقةُ مع المعلّمات أكثرَ من مجرَّدِ معلمةٍ وطالبٍ، كنا نحوَ أربعينَ طالباً في الصف، كانت المعلماتُ وبطريقةٍ ما يتحولْن إلى أمّك الثانية، فهنّ يعرفْنَكَ تماماً، يعرفن اسمَ والدك ووالدتك، مهنهم، أمراضهم، قصصهم، وحكاياهم، ودرجةَ حرراتك في الليلة الماضيةِ وماهي وجبة الغداء المفضلة لديك.

 

ومن أجملِ ما يميّز هذه المدرسة طاقمٌ من الراهبات يقمن بإدارةِ كلّ تفاصيلِ الحياة في هذه المدرسة، فترى الراهبةَ تحضِّر مناقيشَ الزعتر وفطائر الجبنة في الصباح الباكر، وفجأة ترى الراهبة نفسَها تضبط النظامَ خلال الفرصة في الظهيرة، بينما بعضهن يقمن بتعليمنا الأغاني الفرنسية أو مساعدتنا على تزيين الصفوف في عيد الميلاد، أو مرافقتنا خلال الرحلات والعمل على التأكد أن كل شيء على ما يرام، وتراهن في كل مفاصل الحياة المدرسية ولكنك لن ترى لهنَّ وظيفةً محددةً، فواحدةٌ منهن كانت تعلمنا أهميّة النظافة في دوراتِ المياه، وأخرى كانت تربطُ لي حذائي وأنا في الرابعة، وأخرى كانت تتحدثُ معي فقط باللغة الفرنسية خلال الفرصة لتجبرني على التحدث بهذه اللغة ولتساعدني على تحسين مستواي بها، وكنّا نعرفُ أسمائهنّ واحدةً واحدةً، نحبّهن ونخشاهن.

 

و كنا نخشى خصيصاً الراهبةَ ألفريد ماري، رئية الراهبات، كانت الراهبة ألفريد تلبسُ على نحوٍ شبه دائم رداءً رمادياً، وحجاباً أسودَ، تضعُ على عينيها نظارةً وبيدها كانت هناك عصىً لا تفارقها أبداً، فعندما كنّا صغاراً كنتُ أخشى أمرين، ففي كلّ مرة كنت أمشي بجانبِ شرطيّ مرور كانت دقّاتُ قلبي تدقّ بسرعة، ويدايَ ترتبكان، وأمسك بيدِ والدي أو والدتي بشدّة، قد يكون سببَ ذلك أنني كنت أخافُ من الفلقة التي شهدتها في حارات حيّ المهاجرين، لمواطنٍ ما يضربه شرطيّان في الشارع، ولكن العوارضَ نفسَها كانت تنتابني في كلّ مرّة تقتربُ الراهبةُ ألفريد مني لكنها لم ترفع يدها عليّ قط.

  undefined

 

بدأت قصّة الحبّ الذي أكنّه لها عندما كنتُ في الرابعةَ من عمري، عندما ولدَ أخي الصغير، فذهبتُ إلى معلمتي وقلت لها، أصبحت أعرف أحمقين، فقالت لي ومن هم؟ فرددت أولهم أخي الصغير فهو يبكي دائماً دون سبب، أمّا الثاني: فذكرتُ لها اسم مسؤول سوري كبير، كبير جداً، أكبر مما تتصور، هل تصورت؟ هو أكبر من ذلك، وكنا في عام ١٩٨٥، كان التّوتر ضخماً بسببِ أحداث حماه، كانت النكتة كفيلةٌ باتهامك بأنّك إخونجيٌّ أو عميل، وأنا طفل في الرابعة من عمري، لا أفقه ما أتفوه به، فذهلت معلمتي حينها، ومن خشيتها أن أكرر ذاك الكلام للآخرين من الأطفال فما كان منها الا أنها أخبرت الراهبة ألفريد، صعقت تلك الأخرى مما قلته واتصلت بوالدي واستدعته، فذهل هو الآخر، فمن أين سمعت هذا الكلام!؟ ولماذا وكيف ومتى؟

 

أصبح والدي يسرح في الطريق من حيرةِ أمره من خوفه، فبكلامي هذا قد أرسله هو وأمي وأخي الرضيع وعائلتي وجيراني وجيران جيراني إلى المجهول، عادت واتصلت الراهبةُ ألفريد بأبي لتخبره كيف ستحلّ المشكلة، فما كان بها إلا أنها حضرّتْ حفلةً لكل شعبتي، وزيّنا الصف، وأتى شخص متنكرٌّ على هيئةِ بابا نويل وأهداني هديّةً كبيرةً جداً، كانت سيّارةٌ تسيرُ بالتّحكّم عن بعد، وقال لي بابا نويل أنّها هديّة من ذاك المسؤول الكبير، فأحببته حتى نضجت، كانت الراهبة ألفريد تسعى لحمايتي وحماية المعلمة التي سمعت كلامي وحماية أهلي.

 

عندما أصبح عمري ستّ سنين، دخلتِ الراهبةُ علينا، وأصبحت تنادي على بعضنا وفي كلّ مرّةٍ يظهرُ اسم واحد منا كان يحصلُ على كتاب يسمى بالإنجيل، ثلاثون من أصل ٤٠ حصلوا على الإنجيل وأصبحوا يقرؤون به، وطلِب من الآخرين التوجّه لصفٍّ آخرَ لنتعلّم الديانة الإسلامية، بقي اسمي خارجَ هذه الائحة، فبكيت بكاءً ما بعده بكاء، فحبيبتي الشقراء في صفّي حازت على الكتاب، أما أنا فعليّ الذهاب لصفّ آخر، وكانت المرة الأولى التي شعرت فيها بأنّي من الأقليات، كنّا عشرين طالباً من كلّ الشّعب، وبدأنا بحفظِ سورةِ الفاتحة، وكنت أبكي لأنّي أريدُ أن أحصلَ على الإنجيل، فذهبت إلى الدار وعيوني حمراءُ من شدة البكاء، وشرحت لأمي ووالدي ما حصل، وفي اليوم التالي أخذاني لأقابل الراهبة ألفريد، وشرحا لها القصة، فضمتني على صدرها وقبلتني من رأسي وقالت لي "أنت متل ابني" وأعطتني إنجيلاً صغيراً كنت فرحاً جداً فأخيراً امتلكتُ الكتابَ نفسه الذي نالته حبيبتي في الصف، وأصبحت أعشقُ الراهبة التي كان بإمكانها أن ترفضَ طلبي، ولكنها قررت أن تعاملني بمحبة ودون تمييز.

 

 ألفريد ماري (مواقع التواصل)
 ألفريد ماري (مواقع التواصل)

 

في التاسعةِ كانت المرّة الأولى التي أصومُ فيها رمضان، فأخبرتُ والدتي الراهبةَ أنني أفعل ذلك الأمر حتى الساعة الثانية ظهراً، فكانت الراهبةُ ألفريد تتأكد في كلّ مرة تراني فيها إن كان كل شي على ما يرام، وإن كانت صحتي جيدة، وكانت إن شعرت بأمر ما تتحسس حرارتي بيديها الناعمتين، وإن شهدتني استرقُ بعض قطرات المياه دون أن يراني أحد، تضحكُ وتقول لي أنا متأكدةٌ يا مهند أنك تتمضمض من حرارة الجوّ وكأنها كانت تساعدني على الاستمرار والمواصلة دون ضغط أو خطر
وفي الصف الخامس (١١ عام) غابتْ مدرسةُ الدّيانة الإسلامية، فطلبتِ الراهبةُ ألفرد من المسلمين القدوم معها الى الباحة، وكان لي صديقتان من الديانة اليهودية، ألين وروز، فذهبنا الى الصفّ سويّاً مسلمين ويهوداً، وبدأت الراهبة بتعليمنا أغانيَ باللغة الفرنسية، كانت أجمل حصة ديانة في حياتي كلها، فغنينا مسلمين ويهوداً أغنيةً تمجد النبيّ عيسى عليه الصلاة والسلام. وعند خروجنا عانقَ أحد الطلاب الراهبة شاكراً لها على هذه الحصة، فقالت لنا "أنتم كلكم أولادي، أمسيحيين كنتم مسلمين أم يهوداً".

 

قد تكون ألفريد ماري راهبة، قد تكون مسيحية، قد تكون صارمة فاليومَ لا تفارقُ صورتها في مخيلتي تلك العصا التي كانت تمسكها بيدها، لكنها علمتني أحلا دروس حياتي، فمهما كان دينك، العلم والتعليم هو رسالة، فمهما كان دين الطالب وعرقه وإيمانه ومعتقده كانت تدعمه وتربيه وتجعله يحترمُ القانون والقاعدة، لا بل حتى كانت حريصةً أن نطبّق شعائرَ ديانتنا المختلفة وتعايدنا بأعيادنا، كانت وما زالت أمّاً لكثيرين منا في سوريا، كانت بطريقة ما أول من علمني التسامح فعلاً لا قولاً، وكانت رمزاً لنا جميعاً، وما زلت مصمماً على أن أحقق ندراً قطعه والدي على نفسه، فعندما تهدأ الحرب سأفعل كل شيء ليكون للراهبة ألفريد ماري تمثالٌ منصوبٌ في ساحة من ساحات دمشق، بدلاً من تماثيل العسكر والسياسين.

 
كيف لا! وهي أم المسلمين واليهود قبل المسيحيين ربتهم علمتهم ساعدتهم خافت عليهم وحملتهم رسالتها.

 
الحب والعلم أولاً.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.