شعار قسم مدونات

رسالة إلى ابنتي.. مستقبلا

blogs طفلة

أولا وقبل كل شيء، قبل مجيئك لهذا العالم أحييك أينما كنت في الغيب أقدم لك كامل اعتذاري، لأنني لفترة من الزمن ورغم أنني كنت أدعي أنني امرأة قوية مناضلة في سبيل الحصول على حقوقها والعيش بكرامة، إلا أنني كنت دائما أخشى إنجاب فتاة في مجتمع كالذي أعيش فيه، هذا لا يعني بتاتا أنني أفضل الذكور على الإناث والله على ما أقول شهيد لكنني لا طالما اعتقدت أنهم أوفر حظا منا نحن معشر النساء ليس لشيء سوى أنهم لا يضطرون طوال الوقت إلى تبرير طموحهم وأحلامهم واختياراتهم، عكسنا نحن. 

 

أعتذر يا حلوة على خوفي الشديد من إنجاب أنثى. لست ميزوجينية، ولم أكن قط بل لا طالما نظرت نظرة متساوية إلى الذكور والإناث، لكنني أخاف عليك من كل شيء حتى وأنت في ظهر الغيب، قبل أن تتكون نطفتك ويزرع البارئ الروح في مضغتك ثم تخرجين إلى الحياة لتتقلبي في مدها وجزرها وتعيشي أفراحها وأتراحها. أما بعد الاعتذار صغيرتي الحلوة، أودّ أن تعلمي أنني أحبك محبة بلا ضفاف ودون شروط، فلا مداد العالم يكفي كي أعبر لك عن اشتياقي لك، ولا عمري يكفي لأثبت لك أنك أغلى من كل شيء ظننته يوما غاليا. 

 

اعلمي أن فكرة وجودك فقط في حياتي ملأت الكون الفسيح في عيني، فما بالك بدلالك وغنجك وضحكاتك وشغبك وكل شيء فيك سيملأ الروح والقلب وكل الثغور التي خلفها الزمان

أما بعد صغيرتي، هناك أشياء ستتعلمينها من والديك، وأشياء ستعلمها لك الحياة شئت ذلك أم أبيت، وأشياء أخرى ستتعلمينها حين تسري الأمومة في روحك وجسدك وحين سترين عيون طفلك أول مرة. ستكبرين وتكبر معك التساؤلات وعلامات الاستفهام، أتخيلك طفلة مشاكسة تمتنع عن ربط شعرها كالأخريات وتفضله متموجا ثائرا كروحها، تسألين بدل السؤال عشرا بسرعة وعزيمة دون أن تنتظري الجواب عن كل واحد على حدة، ثم تتبعينني في أركان المنزل كي أجيب عن كل تساؤلاتك المذهلة التي لم أطرح مثلها أبدا عندما كنت في سنك. أما إن كنت تتساءلين عن خوفي من إنجاب أنثى، فأريد أن أخبرك أنه خوف في الماضي وليس الآن، كما أنه خوف عليك وليس منك. 

 

"مسكينة عندها بنت، الله يرزقها بذكر يملي عليها بيتها…" من الممكن جدا يا صغيرتي أن تسمعي هذه الجملة مرارا وتكرارا، لا أريد لنفسيتك أن تهتز ولا لكرامتك أن تخدش. هذا لا يعني أن البيت فارغ بدون وجود ابن ذكر فيه، لكن بعض العقليات تراه هكذا للأسف. اعلمي أن فكرة وجودك فقط في حياتي ملأت الكون الفسيح في عيني، فما بالك بدلالك وغنجك وضحكاتك وشغبك وكل شيء فيك سيملأ الروح والقلب وكل الثغور التي خلفها الزمان. أنت هدية من الرحمن التي أخرجت قلبي من بين ضلوعي وجعلته يحبو على أربع ثم يمشي على اثنتين. 

 

أخبرتك مسبقا أن الذكور في مجتمعنا لا يضطرون لتبرير اختياراتهم، فإن طلق مثلا رجل اليوم، وتقدم لخطبة سيدة غدا، لن يسأله الناس عن سبب طلاقه وكم أمضى مع زوجته السابقة من الوقت وهل تم بناء أم أنه لا زال "عذراء مذكر" (لم يسبق لي أن سمعت عن مذكر عذراء). عكس السيدة المطلقة التي من الممكن جدا أن تُرفض فقط لأنها تزوجت في الماضي حلالا طيبا، وكأنها سيارة مستعملة لن ترقى أبدا لمقام سيارة جديدة ولو كانت الأولى بمقومات فريدة. 

 

لن ينتقد أغلب الناس، قراره بالطلاق والزواج مرة أخرى، لأنه رجل، عكس ملايين النساء اللواتي يصبرن على الذل والإهانة والضرب ويضحين بالشيب والتجاعيد من أجل فلذات أكبداهن حتى لا يحملن صفة المطلقة وحتى لا يشتتن أسرا ويلجأن إلى الشارع في ظل انعدام المعيل. تذكري أنني لا أعمم، فهناك حالات مغايرة تماما تؤكد القاعدة. 

 

لا أريدك أن تكوني نسخة مني. أريدك فقط أن تكوني حرة ومسؤولة في نفس الوقت، أن تنتهجي من العطاء أسلوب حياة، أن تناضلي من أجل مبادئك ومن أجل الحق، وأن لا تكوني
لا أريدك أن تكوني نسخة مني. أريدك فقط أن تكوني حرة ومسؤولة في نفس الوقت، أن تنتهجي من العطاء أسلوب حياة، أن تناضلي من أجل مبادئك ومن أجل الحق، وأن لا تكوني "عبْدة" لأحد
 

الله وحده صغيرتي يعلم كم أنا مستعدة للتضحية من أجلك ومن أجل تربيتك وإنباتك نباتا حسنا، لكنني لن أعيش أبدا، سيأتي عليك حين من الدهر تعيشين فيه وحيدة محملة ببضع من نصائحي التي أتمنى أن تكون مفيدة لك. يمكن أن أفعل ما لا تتخيلينه من أجلك لكنني لن أستطيع حمايتك من كلام الناس المسموم، سأحاول جاهدة، وأتمنى من الله التوفيق، أن أغرس في قلبك مكارم الأخلاق لكي يكون ضميرك دائما مستيقظا، كي تفرقي بين الخطأ والصواب وتراقبي نفسك وتضبطيها. أتمنى أن تستشعري حجم المسؤولية على عاتقك، أن يكون هدفك الإحسان إلى نفسك وإلى الآخرين كالشجرة التي حتى وإن لم تعط الناس ثمرا أعطتهم فيئا يستظلون به، فإن جاءت رياح هوجاء وجدتها صامدة جذورها ممتدة في الأرض وفرعها في السماء. 

 

لا يمكن أن أتنبأ بطبيعة علاقتنا مستقبلا، لا يمكن أن أضمن لك ولا لأي شخص بأنني سأكون تلك الأم المثالية ولو حاولت لأنني بشر يخطئ ويصيب، لكنني سأعمل جاهدة على أن أكون صديقتك الوفية دائما وأبدا. سترغبين في سؤالي عن أشياء محرجة في نظرك، عن تغير جسم الفتاة خلال البلوغ، عن الحب، عن العلاقات الإنسانية، وأشياء أخرى، عن الدين والتاريخ والسياسة، عن الوجع والفراق والخيانة وعن الدنيا عندما تكشف لنا ذلك الوجه الذي لم نتوقعه أبدا. ستخجلين وستحمر وجنتاك، ستترددين وتقررين ربما عدم السؤال، لكن أرجوك، اسأليني رغم ذلك، عن كل شيء خطر في بالك. فنحن صديقتان إلى الأبد. 

 

أنت صغيرتي وصديقتي المذهلة التي أرى فيها امتدادا لكبدي وروحي، قطعة مني أريد أن أعلمها من أخطائي. ليس من الضروري أن تسلكي نفس المسار الذي سلكته يوما، لا أريدك أن تكوني نسخة مني. أريدك فقط أن تكوني حرة ومسؤولة في نفس الوقت، أن تنتهجي من العطاء أسلوب حياة، أن تناضلي من أجل مبادئك ومن أجل الحق، وأن لا تكوني "عبْدة" لأحد.. سواء كان ذلك "الأحد" نفسك أو الآخرين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.