شعار قسم مدونات

لغتنا.. هويةٌ أم عزلة؟

blogs اللغة العربية

في غربتنا التي نحاول جاهدين الارتواء من كأسها الملآن وغض الطرف عن ذلك العطش المتجذر فينا.. وبينما نسعى إلى الانخراط مع مجتمع نجهله.. نصطدم في كثيرٍ من الأحيان مع الآخر؛ مع عدم فهمه فهو لا يتكلم لغتنا اللسانية، نحاول التركيز على لغة الجسد التي تُخفق في كثير من الأحيان.. هنا تلح علينا فكرة تعلم اللغة الأخرى وجعلها حتماً من أولويات الحياة شأنها شأن أولوية الطعام والشراب، نعمل بكل ما فينا على تعلمها ونحاول استعمالها فينجح بعضنا ويخفق كثيرون.

تأتينا صدمة أمرُّ وحيرة أكبر تجاه الجيل الجديد بين الحفاظ على الهوية والذات وبين الاندماج بالبيئة الجديدة وعدم إغراقهم بغربتنا التي توارثناها أباً عن جد ونحرص على توريثها لأن لها ما وراءها.. بعد انتقالي إلى اسطنبول التي أحبها بدأتْ رحلة الاستكشاف والتعرف على الآخر مع اعترافي أنني لم أحتك بما يكفي مع المجتمع التركي كوني لم أدرس في جامعاتهم ولم أعمل في شركاتهم.. وبحكم أني أحب البيت والعائلة فقد أعطيتهم جل وقتي واهتمامي..

اللغة العربية يجب أن تكون حاضنة الطفل من أول الهمس إلى أن يكمل أعوامه الخمسة على أقل حد فيحبها وتحبه ويتعرف على حروفها وكلماتها سماعياً

كبر أطفالي وبدأت تكبر لدي ولدى زوجي تلك الصراعات مع أنفسنا أولاً ثم مع المجتمع.. لا أنسى كم جلسنا وتناقشنا حول ما سنعزم على فعله وما نوع التعليم الذي يجب أن يتلقّاه ابننا بشكل خاص وأولاد أصدقائنا بشكل عام.. حبنا للغتنا الأم لا يوازيه حب فلا تستطيع أن تنافسها لغة أخرى وإن أتقناها وإن درسناها.. فلغة القرآن والشعر والأدب أُرضعنا حبها فأصبح يسري فينا.. كنا نفكر كيف لطفلنا أن يفكر بلغة غير لغته العربية وكيف سيكون شكل حلمه ومنامه وكيف ستكون جمله وهو يعبر عن مشاعره، كم بكيتُ من كل هذا وكم زادت الغربة فينا وحلت ظلمتها وقسوتها علينا.

وكم سألنا وسمعنا عن تجارب ناجحة وأخرى باءت بالفشل. أذكر تلك المشاعر كي أذكر نفسي أولاً وأذكر غيري بغض النظر عن قراره الذي اتخذه بما يخص مدرسة طفله ألا ينسى أن يزرع حب لغته الأم أولاً وألا يتهاون بذلك، ولا يكون الزرع قوياً مثمراً إلا بالبذر حين يحين وقت البذر..

فاللغة العربية يجب أن تكون حاضنة الطفل من أول الهمس إلى أن يكمل أعوامه الخمسة على أقل حد فيحبها وتحبه ويتعرف على حروفها وكلماتها سماعياً.. فالقصص لابد أن تكون عربية وكل ما يُشاهد عبر التلفاز عربياً بالضرورة والحديث كله عربي بلغة مفهومة دونما تكلف.. بعد ذلك إن أحببنا فلنا أن ندخلهم في عالم اللغة الأخرى مع أصدقائهم الذين سيتعرفون على لغتهم أيضاً دراسياً.

 

سيكون أكبر تحدٍ لطفلنا أن يتعلم كيف يعرِّف عن نفسه ويدرك ما تقوله المعلمة التي ستُراعي بالضرورة أول عتبة تعلم للأطفال في سلم الدراسة الأكاديمية… أعلم حقاً أنه ليس بالأمر السهل أن تجعل طفلك يخوض هذه التجربة وهو بهذه الغضاضة والصغر.. أعلم أنه سيواجه كثيراً من المشاكل في التعبير عما يشعر وعما يريد قوله ولكنها الحياة فكما كان يحاول الوقوف ليخط بقدميه بضع خطوات ثم يقع ويبكي، كذلك الأمر هنا ولكن الألم هذه المرة لن يكون جسدياً بل سيتعدى ذاك إلى ما هو أعمق؛ النفس..

لنتذكر دوماً أن لغتنا هي الوعاء الكبير وأن اللغة الأخرى هي خليط داخل الوعاء فلا يضر الوعاء ما يوضع به إن كان جيد الصنع..
لنتذكر دوماً أن لغتنا هي الوعاء الكبير وأن اللغة الأخرى هي خليط داخل الوعاء فلا يضر الوعاء ما يوضع به إن كان جيد الصنع..
 

مع كل ذلك أنا على يقين أننا في هذه الخطوة نربي لديه أموراً أخرى سوف تُزرع فيه وتكبر إلى أن يشيب، فكسر القيود والإقدام، الشجاعة والثقة بالنفس، والكثير الكثير لن تأتي دونما تجارب وإخفاقات ودون ألم حقيقي..

 

عندما نقرر أن نندمج بالمجتمع الذي نعيشه لابد لنا من أن نسير على حبل معلق ونحن نحمل العصا ونعمل جاهدين على أن تبقى متوازنة، إذا مالت كفة لغة على الأخرى فأنت ستسقط لا محالة، إما أن تغرق بالغربة أكثر ويسيطر عليك شعور الاغتراب والاختلاف فتشعر بظلم الآخر لك بكل نظرة ينظر بها إليك وهو ليس بالضرورة أن يكون واقعياً، فالضعف سيُصبِح متجذراً فيك.. وإن كانت كفة اللغة الأخرى هي التي رجحت فستقع في المحظور وتذوب في الاخر حتى تنسى من أنت.. فلنتذكر دوماً أن لغتنا هي الوعاء الكبير وأن اللغة الأخرى هي خليط داخل الوعاء فلا يضر الوعاء ما يوضع به إن كان جيد الصنع..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.