شعار قسم مدونات

اليمن وعقدة السيرورات غير المنجزة

مدونات - اليمن
في دينامية المشهد اليمني ثمة حالة من اللا اكتمال تطغى على كل شيء، وتلك سمة تجذرت في عمق التاريخ السياسي اليمني الحديث، وتطبع كل تحّول بحالة اللا اكتمال تلك، فبعد أن ظلت اليمن تنتقل خلال العقدين الفارطين من وضع معتم إلى آخر أشد عتمة وقتامة، كثفت التطورات الأخيرة من المخاطر التي تحيط بها، وزادت من الضبابية، وحالة "اللايقين"، وانتقلت معها البلاد خطوات واسعة نحو المجهول. 
        
شغرت حالة اللا اكتمال تلك، أو الحلقة المنقوصة في سلسة البناء أفق كل تحول في اليمن، وكان لها أثر بارز في أكثر نقاط التحول أثارة للجدل، ذلك أن التغيير البنيوي يجب أن يغيّر القواعد الرئيسية في النظام، ما يؤدي إلى تغيير في النظام، أو تغيير النظام نفسه. لكن الحراك اليمني وبصرف عن قيمته السامية ودوره في تحقيق اختراق في جدار الاستبداد الصلب، لم يصل إلى حدّ التغيير البنيوي، وما تحقق لا يخرج عن دائرة التغيير في التوازنات الذي قد يتضمن بعض التحولات في مواقع الفاعلين من دون المساس بالقواعد الجوهرية لاشتغال النظام، ما يصب في نهاية المطاف في استمرار النظام وتجدّده.
        

لم يكن الواقع الاجتماعي اليمني قبل الحرب مثاليا في انسجامه، غير أنه امتلك الحد الأدنى من القابلية للتعايش على الرغم من وجود نظام سياسي سخي في خلق بيئات لا تسمح به

والمقصود بالنظام هنا هو الذي أضاع البوصلة نحو إيجاد الدولة وهي حالة عامة طبعت كل الأنظمة التي عرفها التاريخ السياسي اليمني، ولا يمكن القول هنا أن ثمة نظام تميز عن آخر واستطاع التقدم خطوات نحو الدولة، فكل الأنظمة انتهجت نفس آلية التفكير لجهة عدم التسليم للدولة واعتبارها الضامن الرئيس، على الرغم من تباينها واختلافها، فثمة مبدأ مثل قاسم مشترك بينها عنوانه الأبرز مزيدا من التشظي ولا دولة في الأفق، ذلك المبدأ يجعل من تعاقب الأنظمة أمر تراكمي وليس تعويضي، إذ من المستحيل أن تقوم بنية نظام جديد بمحو بنية نظام سابق محواً تاماً بإمكانه أن يترك أثراً إيجابياً يمكن أن يبني عليه نظام لاحق حتى الوصول، فالذي يحدث هو إما أن يواصل النظام القديم الحياة كعنصر في الجديد، عنصر قد يظل مخفيا وفي حالة من اللاوعي شبه تامة، وإما أن يعيش الاثنان القديم والجديد جنبا إلى جنب متعارضين، غير قابلين للوفاق، من الناحية المنطقية ولكنهما يظلان مقبولان في نفس الفترة من طرف أشخاص مختلفين وأحيانا من طرف شخص واحد.

    
ذلك الوضع المكتظ بالعتمة قاد إلى حالة شديدة من الارباك وغدا الأمر في سياق اللا اكتمال يطبع كل الحياة اليمنية، وفيما يشبه الباب الدوار انتجت حالة اللا اكتمال صورة من الجمود يحيط بها إطار مستفز من التشظي على كافة المستويات بأبعادها السياسية والاجتماعية والثقافية وحتى النفسية، فلا الاستبداد تسلط، ولا الديمقراطية ترسخت، ولا الثورة أُنجزت، ولا الثورة المضادة افلحت، ولا الانقلاب سيطر، ولا الشرعية تغلبت، ولا الانفصال تم ولا الوحدة تعززت، وإذا استمرينا في سرد تناسل سلسلة المتناقضات وبيان عدم تغلب بعضها على بعض سنجدها حالة عامة تغلغلت في أكثر التفاصيل دقة، فثمة حلقة سحرية منقوصة باستمرار تحول دون الاستقرار على حالة معينة . فحالة اللا حرب، واللا سلام (حالة الجمود) جعلت من رقعة عدم الاستقرار تنشر وتلتهم في طريقها مجالات اجتماعية أخرى.
     
وفي سياق اتسارع رقعة عدم الاستقرار لم يكن الواقع الاجتماعي اليمني قبل الحرب مثاليا في انسجامه، غير انه امتلك الحد الأدنى من القابلية للتعايش على الرغم من وجود نظام سياسي سخي في خلق بيئات لا تسمح به، بل وبارع في تحويل حتى أدنى الخلافات على المستوى السياسي إلى صراع هويات، وذلك راجع بالأساس إلى عجز الأنظمة المتعاقبة على السلطة في إيجاد الدولة، فالأصل في ظاهرة الدولة القومية التي شقت طريقها إلى الوجود، بعد معاهدة وستفاليا في منتصف القرن السابع عشر(1648) في أوروبا، هو أن الدولة تضم شعباً واحداً داخل إقليم محدد. ولما كان نادراً أن توجد الدولة التي لا يتكون شعبها من عرقيات مختلفة، أو قوميات متباينة، أو قبائل متنافرة، أو حتى أديان مختلفة، وأحياناً من حضر وبدو، ومن سكان سهول وسكان هضاب أو جبال، أو من مركز وتخوم، فإن على هذه الدولة لكي تكون وطنية، أن تقيم نظاماً سياسياً يدمج الجميع، ويساوي بينهم أمام القانون، ولا يتحيز اقتصادياً أو ثقافياُ لمجموعة على حساب الآخرين حتى ولو كانت إحدى هذه المجموعات هي الأغلبية الكاسحة إلا في حدود عدم الجور على الأغلبية لأنها أغلبية. وتلك هي مأساتنا التي نشترك فيها مع الكثير من الدول العربية، وهي عمق جراحنا.
     
وقفت الحرب بمخالبها الضخمة على الجزء الغائر من الجراح وخلقت هياج شعبي ساخط بمسارات متباينة، فثمة انقسام شعبي واسع في تحديد النقطة صفر في مسار الحرب (نقطة البداية) ــ وهي نقطة يصعب تحديها في الواقع، حيث تتأرجح بين حدود يصعب تميزها بوضوح ــ ومن ثم جرى تفسير تحركات اجتماعية معينة بأنها ضد فئات اجتماعية أخرى وهكذا دواليك، وتشكل شرخا عميقا في نسيج اجتماعي هش أصلا.
     
ليس ثمة موقف عقلاني ومحايد قيمياً في هذه الحرب سوى الانحياز لفكرة دولة المواطنة المتساوية وما عدا ذلك تشوهات لا تفيد الموقف العقلاني
ليس ثمة موقف عقلاني ومحايد قيمياً في هذه الحرب سوى الانحياز لفكرة دولة المواطنة المتساوية وما عدا ذلك تشوهات لا تفيد الموقف العقلاني
        

وفي مجتمع يشكل فيه الوعي الاستثناء وحالة اللا وعي القاعدة كان الأمل معقودا على الفئات الشابة المثقفة في خلق حالة من التوازن في المجتمع، تماما مثل ما صنعت النخب المثقفة في المجتمعات التي عانت وضعا مشابها، ولعبت أدوارا جوهرية في خلق مجتمع متماسك. غير أن واقعنا المكوي بحالة اللا اكتمال خلق وضعا شديد التأرجح بين الوعي واللاوعي، في أوساط من يمثلون الاستثناء في مجتمع القاعدة اللاواعية أي الفئة المثقفة من الشباب، إذ لم يكن الأمل معقوداً بعد اطلاق صرخة التغيير المدوية في النخب البالية مهمة تَبَدَّى لنا أنها وطنية فنمط تفكيرها ينتمي لعصور غابرة، غير انه من المؤسف حقاً أن نفقد حتى ما كان مأمولاً في بعض الشباب، ممن علقنا آمال عريضة على وعيهم، فسقطوا في فخ التناقضات بين ما ينادون به من إقامة دولة مدنية لكل الناس، وبين ما يمارسونه عمليا من عنصرية ضد بعض الفئات الاجتماعية بمبررات لا تستطيع الصمود أمام فكرة إقامة دولة لكل الناس!

       
إن تبني موقف معين من شأنه أن يدفع باتجاه تعزيز بنى ما قبل الدولة كردة فعل ناتج عن موقف سلبي (لجماعة ما) تقف عمليا وفكريا خارج سياق العصر والتاريخ يجعل من ذلك الموقف فكرة لا تقل حدة وفداحة عن الموقف السلبي. فالمحاججة مثلا في تبني فكرة القومية بالعودة إلى سكان اليمن الأولين أو الأصلين، لا تنسجم وقواعد اللعبة الديمقراطية التي عن طريقها يمكن سلوك السبل المؤدية للمواطنة، ذلك أن الأول أو الأصلي هنا لا يعطي ولا يمنح لأصحابه أي امتياز أو تفضيل عن المواطنين الآخرين الذين ينتمون إلى نفس الوطن، أكثر من كونه خبر أو معلومة تاريخية لا غير. وأنه خارج النظام الديمقراطي الذي يقر بالتعدد والتنوع والاختلاف. فإنسان العصر الحديث (كما يرى حبيب السروري) أفقهُ الوحيد: الإنسانية، ووطنه فضاء مدني للإنسان، دون اعتبار قبيلته أو قوميته أو هويته الدينية أو اللادينية.
       
تلك التناقضات تجعل من مواقف أصحابها تندرج في سياق جملة التشوهات التي أفرزتها الحرب ليس إلا. وتلك حالة صحية لجهة تعرية المواقف التي تلبس لبوس الديمقراطية ويطغى على سلوكها غلبة المنزع العنصري في صوره الأكثر بدائية. فليس ثمة من موقف عقلاني ومحايد قيمياً في هذه الحرب سوى الانحياز لفكرة دولة المواطنة المتساوية، وما عدا ذلك تشوهات لا تفيد الموقف العقلاني ولا تفيد في البحث عن انجع طرق الخلاص نحو الدولة.
         
إن خصوصية هذه المرحلة العصيبة من عملية الانتقال ــ على اعتبار أن المراحل الانتقالية في التاريخ هي مراحل الأزمات الكبرى ــ لا تقبل النكوص عن المبادئ الديمقراطية التي جعلت التطلع إليها بمشاعر متقده عبر التغيير عنوانها الأبرز، بل أن حساسية المرحلة تتطلب من الجميع سيما النخب الشابة والمثقفة اختيار انجع الشروط لتجاوز الاكراهات التي تعتور اكتمال سيرورة عملية الانتقال لوضعية الدولة وترسيخ أسس النظام الديمقراطي الذي يعد التعدد والاختلاف من ابرز سماته لا معضلاته.
    
وإن كان هناك ثمة من أمرا يستحق النكوص والارتداد فهو استثناء الفئات الشابة نفسها من حالة التقوقع بين المتناقضات، والقطع باختيار الوعي ، والنأي بنفسها عن جحور المذهب والطائفة والعرق، والانكفاء على أفضل اختيارات العقل الحديث وإنسان العصر الحديث.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.