شعار قسم مدونات

هل قدم تواضروس الشكر الواجب لابن سلمان؟

مدونات - بن سلمان وتواضرس

لا أنكر أن الدهشة أصابتني عندما علمت بخبر زيارة ولي العهد السعودي وخادم الحرمين الشريفين المقبل محمد بن سلمان لبابا الكرازة المرقصية تواضروس لتؤكد أن هناك عصر يريد أن يسميه محُدثيه بالعصر الانفتاحي قد بدأ بالفعل في المملكة، لأن هذه الزيارة هي الأولى من نوعها لمسؤول سعودي بهذا الوزن للكنيسة الأرثوذكسية، وكنت أتمنى أن يقوم ولي العهد بمناسبة هذه الزيارة الموحية بإطلاق سراح الشيخ سلمان العودة والشيخ علي العمري اللذان افتقدهما كثيرا على المستوى الشخصي، حتى تصبح الفرحة فرحتين كما يقول المثل المصري.

 
ولعلها فرصة كي ننسى ما حدث عندما قام الشيخ العريفي بزيارة مصر وإلقاء خطبة الجمعة من مسجد عمرو بن العاص في يناير 2013 حين أنبرت سهام الكتاب العلمانيين والأقباط الذين لعنوا دون تحفظ كل ما هو " سعودي " قادما من الصحراء بحسب زعمهم لدرجة أن أحدهم وصف هذه الخطبة بأنها تعيد مصر إلى عصور الظلام، على الرغم من أن الرجل أسهب طويلا في مدح مصر والمصريين ودعا العرب جميعا للاستثمار فيها!

 

وبما أن ولي العهد أتى إلى تواضروس من نفس الأرض التي جاء منها عمرو بن العاص قبل أكثر من 1400 سنة، فلعل تواضروس قد تذكر حال آبائه قبل هذا الفتح العظيم. حيث دخلت المسيحية مصر علي يد الأنبا مرقص عام 55 م الذي قام بكتابة أحد الأناجيل المعترف بها حالياً، كما أنشأ المدرسة الإكليريكية لتعليم الدين سنة 61 م وعندها قام المسيحيون ببناء أول كنسية في مصر في مدينة الإسكندرية، وكان مرقص هو أول بطريرك لها لذلك تسمي بالكرازة المرقصية.

 

كانت اللحظة الفاصلة في تاريخ الكنيسة المسيحية هي اجتماع رجال الدين المسيحي في مجمع "نيقيا" لتحديد طبيعة السيد المسيح. وكان نتيجة التصويت انتصار الفرقة التي تقول بطبيعتين للمسيح

ولكن المسيحيون الذين اتبعوا مرقص ما لبثوا أن تعرضوا للاضطهاد علي يد الرومان الوثنيين الذين اعتقلوا مرقص وعذبوه حتى مات سنة 68 م، وتوجد رأسه حالياً بالكنيسة المرقصية في الإسكندرية بعدما استعاد البابا كيرلس السادس رفات مرقص من الفاتيكان عام 1968، أي بعد مرور 1900 عام على وفاته. وبلغ الاضطهاد من روما الوثنية ذروته في عهد الإمبراطور الروماني دقليديانوس عام 284 م، لذلك سمي عصره بعصر الشهداء، وبه يبدأ التأريخ القبطي.

 

وظلت الأمور على هذا الحال حتي تولي الإمبراطور قسطنطين العرش في روما سنة 306 م، حيث أجاز اعتناق الديانة المسيحية في إمبراطورتيه عام 313م، وبذلك انتهي عصر اضطهاد المسيحيين في مصر لفترة قصيرة جدا بعد أن أصبحت الديانة المسيحية هي الديانة السائدة في كل أنحاء الإمبراطورية ومنها مصر، ولكن سريعا بدأت بوادر الانشقاق في صفوف الكنيسة عندما دعا الإمبراطور قسطنطين لاجتماع مختلف رجال الدين من كل أنحاء الإمبراطورية للاتفاق على تحديد طبيعة السيد المسيح.

 

وكان القس أريوس في الإسكندرية قد بدأ في الدعوة لمذهبه القائم علي عدم إلوهية السيد المسيح، فقام البطريرك الإكسندروس بتجريده من منصب الكهنوت، وأُحرقت كتبه وشطبت تعاليمه من ربوع مصر، ومع ذلك ظل الاختلاف سائد في الإمبراطورية بين ثلاث فرق، فرقة بزعامة أريوس تقول بإنسانية السيد المسيح وترفض ألوهيته تماما، وفرقة ثانية يتزعمها الإمبراطور قسطنطين ووالدته الإمبراطورة هيلانه تقول بأن المسيح له طبيعتان دون اندماج هما طبيعة إلاهية وأخرى بشرية، والفرقة الثالثة متمثلة في الكنيسة المصرية تقول بأن المسيح له طبيعة واحدة هي طبيعة إلاهية.

 

وكانت اللحظة الفاصلة في تاريخ الكنيسة المسيحية هي اجتماع رجال الدين المسيحي في مجمع "نيقيا" لتحديد طبيعة السيد المسيح. وكان نتيجة التصويت -حيث قام البشر بتحديد طبيعة المسيح ديمقراطيا- انتصار الفرقة التي تقول بطبيعتين للمسيح بما يتفق مع رؤية الإمبراطور قسطنطين ووالدته الإمبراطورة، ولكن الكنيسة الشرقية في مصر رفضت نتيجة التصويت وبالتالي قرارات المجمع، وانفصلت عن كنيسة روما وكونت الكنيسة الأرثوزكسية، بينما كونت الفرقة الثانية المنتصرة الكنيسة الكاثوليكية في روما.

  undefined

 

ونتيجة لهذا الانقسام الذي حدث في الكنيسة عاد الرومان إلى اضطهاد المصريين المخالفين لهم في المذهب حيث منح الإمبراطور سلطات واسعة للأساقفة الرومان، فأصبح لهم الحق في استخدام سلطة الشرطة والجيش في فرض تعاليمهم على من يخالفهم.

 

وفي عام 325 أنشأ الإمبراطور قسطنطين جماعة كنسية مسكونية (عالمية) هدفها محاربة ما تعتقد كنيسة روما أنه يمثل عقائد هرطوقية -أي لا تتفق مع تعاليمها- وانتهى بهم الأمر إلى إرسال الأسقف ثيوفيلوس إلى الإسكندرية، وهو الذي أحرق عام 391 معبد السرابيوم ومكتبة الإسكندرية الشهيرة التي كانت بداخله، وتبعت ذلك عمليات تفتيش واسعة بجميع أنحاء الدولة المصرية، بحثا عن أية كتابات لدى الأقباط تعارض تعاليم كنيسة روما .

 

يعلم تواضروس كيف قام الرومان بحرق شحم جسد شقيق البابا بنيامين أمام عينيه حيا قبل أن يلقوه في البحر، وكيف تحول الكثيرون من أقباط مصر إلى المذهب الروماني بسبب الاضطهاد السياسي والديني

وانتهى حكم روما على مصر عند موت الإمبراطور ثيودوسيوس الأول عام 395 م وانتقلت مصر بعد ذلك إلى سلطة الدولة البيزنطية الجديدة وعاصمتها القسطنطينية حيث انفردت العاصمة الجديدة بأخذ الضرائب المفروضة على المصريين وكانت العلاقة سيئة بين أقباط مصر وحكام بيزنطة منذ البداية، إلا أنها ازدادت سوءاً بعد انعقاد مجمع "نيقيا" الثاني لممثلي الكنائس عام 449 م إذ اختلف في هذا المؤتمر حول ما إذا كان للمسيح طبيعتان أو طبيعة واحدة وبعدها قرر المجمع أن له طبيعتين لاهوتية وناسوتية، واعتبر من يخالف القرار من الهراطقة.

 

ولما كانت الكنيسة القبطية المصرية لا توافق مازالت على الطبيعتين اتهمتها روما والقسطنطينية بالهرطقة، ولهذا قرر المصريون الانسحاب كلياً من مجامع الكنائس العالمية منذ ذلك التاريخ. وفي محاولة منها لفرض عقيدة الرومان على المصريين، فرضت القسطنطينية سيطرتها على كنيسة القديس مرقص بالإسكندرية، وعينت أسقفاً للإشراف عليها، إلا أن هذا لم يفلح في إخضاع الأقباط الذين أسسوا كنيستهم للقديس مرقص خارج الإسكندرية واختاروا لها أسقفاً مصرياً، فأصبح هناك فرعان للكنيسة المرقصية فبدأت السلطات البيزنطية سلسلة من عمليات الاضطهاد ضد أقباط مصر بهدف إجبارهم على قبول العقيدة الرومانية ولضمان تحقيق هذا الهدف عين الإمبراطور البيزنطي رجلاً واحداً هو بوليناريوس، حاكماً على مصر وقائداً للجيش وأسقفاً للإسكندرية، حتى يمنحه سلطات كاملة لفرض عقيدة روما على شعب مصر. ورفض أقباط مصر الحكم العسكري للكنيسة واختاروا أسقفاً لهم من بينهم، الا أنه اضطر للتنقل سراً بين أديرة الصحراء هرباً من البيزنطيين، وزاد الحاكم الجديد الضرائب على المصريين الذين أساء ممثلو السلطة معاملتهم في جميع المناسبات.

 
يقول السير توماس أرنولد صاحب كتاب الدعوة إلى الإسلام: إن النجاح السريع الذي أحرزه العرب (حسب وصفه) يعود قبل كل شيء إلى ما لقوه من ترحيب الأهالي المسيحيين الذين كرهوا الحكم البيزنطي لما عرف به من الإدارة الظالمة.

   undefined

 

ومن كتاب تاريخ الأمة القبطية للمؤرخين القبطيين، كامل صالح نخلة، وفريد كامل يعرف تواضروس دون شك كيف أرسل عمرو بن العاص خطاب أمان لبنيامين الأول بابا الإسكندرية الذي أجبره الرومان على الفرار إلى الصحراء لمده 13 عاما كان نصه: "الموضع الذي فيه بنيامين، بطريرك النصارى القبط، له العهد والأمان والسلام، فليحضر آمنا مطمئنا ليدبر شعبه وكنائسه".

 

ويعلم تواضروس أيضا كيف قام الرومان بحرق شحم جسد شقيق البابا بنيامين أمام عينيه حيا قبل أن يلقوه في البحر، وكيف تحول الكثيرون من أقباط مصر إلى المذهب الروماني بسبب الاضطهاد السياسي والديني، وكاد مذهبه أن يختفي لولا قدوم بن العاص الذي أحسن استقبال البابا بنامين فألقى على مسامعه خطاباً ضمّنه الاقتراحات التي رآها ضرورية لحفظ كيان الكنيسة الأرثوذكسية، فتقبلها بن العاص ومنحه السلطة التامة لإدارة شؤون الكنيسة.

 

وليس أدل على ذلك من رد بنيامين على رسالة الأسقف باسيل بقوله: "لقد وجدت في مدينة الإسكندرية زمن النجاة والطمأنينة اللتين كنت أنشدهما بعد الاضطهادات والمظالم التي قام بتمثيلها الظلمة المارقون"، فمن هذه الكلمات التي فاه بها البطريرك يتجلى مدى الطمأنينة التي شعر بها المصريون في عهد الفاتح عمرو بن العاص .فهل قدم تواضروس الشكر الواجب لبن سلمان على كل ما سبق؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.