شعار قسم مدونات

اغزلوا ولا تعزلوا

مدونات - الغزل والنسيج
في ضحى هذا اليوم الصحو، وأنا متجه لمكتبي، تملكتني فكرة منيرة، ومن فرط جمالها كدت أنسى قواعد المرور وأقطع الطريق مسرعاً وأنا ذاهل عن السيارات المقابلة، ولكن الله ستر، الفكرة هي أن الزمن عاد بي واستدار إلى أماكن الصبا ومدارج الطفولة، ومراتع الشباب، إذ كنت أقطن في منطقة تمتع بخصائص المدنية، ومكارم لقرية ونشاط المناطق الصناعية، إذ يتوفر بها سجل مدني ومستشفى وبنك، وعلى أطرافها الأربع توجد المزراع الخضراء، والأشجار الباسقة، وتجمعات النخل السامقة. وتقع منطقتها الصناعية في قسمها الجنوبي إذ تنتشر بها مصانع الغزل والنسيج اليدوية والميكانيكية.

 

وعند الأصيل يتجلى جمال المدنية الفاتن راسماً لوحةً فنية من التناغم والانسجام؛ فعيناك تَقر برؤية الفلاحين العائدين إلى بيوتهم مصطحبين أنعامهم ويحملون في قلوبهم رقة الحمل الوَدِيع، ورحمة الأم الرَؤوم، وتُسر نفسك وأنت ترى شوارع المدنية الجنوبية تمُوج بزمرات من عمال يتناوبون على أوقات العمل في جد ونشاط. وبحكم وجود بيت العائلة قريبا من الجهة الجنوبية للمدنية حيث مصانع الغزل النسيج؛ كنت أمر عليها آناء الليل وأطراف النهار؛ فتكونت لي صلات وثيقة أعتز بها مع العاملين وأصحاب المصانع ورجالات هذه المهنة.

 

والجديد اليوم وبعد انقطاع يُقارب خمسة عشر عاماً عن البلدة وأهلها وجدت نفسي مشغولاً بفهم فلسفة صناعة الغزل والنسيج على غير رغبة وإرادة مني، وكما تعرفون إذا تجاوز المرء الأربعين تجده يميل نحو التفلسف والتدبر؛ محاولاً أن يبدو فليسوفاً و خبيراً بشؤون الدنيا والدين،فقالت لنفسي كن عميقا يا ولد، وركز على الخيط النظام لهذه الصناعة، وبعد طول تفكير، وتقليب للخواطر والأفكار وجدت يا سادة يا كرام أن سر هذه الصناعة قائم على الدمج بين الألياف والأنسجة والخيوط؛ حتى تنصهر في قطعة واحدة متماسكة وجميلة، قد يكون لونها أصفر تارةً يسر الناظرين، أو أحمر زاهياً حيناً فيحبه العاشقون، أو أسود قاتماً أحياناً حتى يُلبي رغبة المحزونين، وهذا جعلني أتذكر صديقي نقي القلب رقيق الحس "عربي" عامل النسيج، وعم حسين صاحب مصنع السلام المتخصص في إنتاج القماش "البفته"، والأسطى محمود الميكانيكي المشرف على صيانة المكن، فكل هؤلاء هدفهم ينحصر في إنتاج قماش أنسجته متحالفة ومتشابكة يزيد الناس جمالاً وبهاءً.

  undefined

 

وعند هذه الانعطافة من الذكريات سألت نفسي لماذا نجحت تلك الفكرة أن تستولي على وجداني ونفسي صباح اليوم؟ بل والأخطر من ذلك أنها نقلتني على بساط الريح من شاطئ الخليج العربي حيث أُقيم إلى ضفاف النيل حيث تربيت! عند هذا السؤال كانت سيارتي قد استقرت في موقفها ووصلت مكتبي وفتحت الكمبيوتر، وجاءني عمي "فيرزو" بكوب من الشاي، وزجاجة من الماء البارد، و مع أول رشفة من الشاي المُنعنع حدثت الإضاءة وتمت الاستنارة، وفهمت القصة، واتضح المغزى، وأصابت الذكرى فؤاد الحقيقة، إذ اكتشفت أنني منذ عقد من الزمن أعمل عامل نسيج وأنا لا أدري!، فأنا أفحص عديد الأنسجة والخيوط وأسعى أن أدمج بينها، وأُلف بين قلوبها وألوانها وأطرافها، وأسعى إلى تطويرها، والانفتاح على الخبراء في تلوينها وزخرفتها، حتى تجد لها زبائن ومحبين يقدرونها ويحافظون عليها..

 

فأنا تماما أقوم بما يقوم به صديقي عربي في مصنع النسيج فهو يتعامل مع خيوط الحرير، وألياف الكتان، ورقائق القطيفة، وأنسجة القطن حتى تستجيب له طائعة؛ فتشارك في إنتاج قماش جميل يكسو الناس، وأنا مهتم بدمج نوع أخر من الأواصر والوشائج والروابط الإنسانية التي تعيش على أرض مصر المحروسة، محاولاً إقناعها بأن تكون مجتمعة في ثوب واحد قَشِيبٌ يُسعد المصريين ويُضيف تجربة إنسانية جديدة للناس قائمة على الانسجام والوئام.

  
ولكن مهمتي تبدو أصعب من مهمة صديقي عربي؛ فالمكونات التي أحب العمل معها متنوعة بسبب نشأتها؛ فهذا نسيج مسيحي ضارب في عمق التاريخ، وذاك مكون مسلم متسامح، وثالث يهودي مازال ينافح الواقع والضغوط ليكون مشاركاً في بناء الوطن، وهذا رابع يؤمن بأن تقدم مصر مرهون بأن تكون إسلامية، وخامس يعتقد أن مستقبل المحروسة في أن تكون ليبرالية خالصة، وتلك فئة أخرى لا ترى حلاً لمشاكل مصر إلا في خيار الاشتراكية، والعمل مع كل هذه الثروة المصرية الكامنة يحتاج صبر نبي، ورحمة أب، وشجاعة أسد، وأنا كما اتضح لكم أني عامل نسيج مسكين ولا أمل لي في النجاح في هذه الرسالة إلا بجهودكم ودعمكم وانضمامكم وحبكم لهذه المهنة معي واقتناعكم بفائدتها؛فكونوا مع النساجين المتسامحين الذين يرتقون ثوب الوطن، ويؤلفون بين مكوناته، ولا تتحالفوا مع الذين يحولون عزل الوطن من بعد قوة أنكاثاً حينما يعزلون الناس عن بعضهم فينشؤون بينهم قلاعاً تفصل ولا يبنون لهم جسوراً تُوَصل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.