شعار قسم مدونات

لعنة الضرب في المدارس العربية.. متى تختفي؟

blogs العنف المدرسي

بدءا.. نحن نعلم بأن الحمار لا يفهم بالكلام، ولذلك يضرب مرارا لكي يواصل السير في الطريق. وبرغم تلك الحجة فأنا أمقت وبشدة ذلك التعنيف الموجه له، فكيف لي أن أتقبل تعنيف التلاميذ الصغار بتعلة حثهم على السير في طريق العلم وكأن لا طريقة أدمية أخرى تنهاهم عن التكاسل في التعليم. رغم أن أغلب وزارات التربية والتعليم قد منعت الضرب في المدارس إلا أننا لا زلنا نسمع، في هذه المدينة أو تلك، أخبارا وقصصا عن معلمين يعاقبون التلاميذ بأشكال قاسية. 

المعلمون المؤيدون للضرب في المرحلة الابتدائية قد وقعوا في مفترق طرق بين أن يكونوا العامل الأمثل لترغيب التلاميذ على الدراسة أو أن يكونوا السبب الرئيسي لنفورهم منها. لأن الضرب في المدارس العربية بات ينتج جيلا ناقما ومتهورا ولا يكن أي احترام للأستاذ في المراحل المتقدمة من الدراسة الاعدادية والثانوية التي يمتنع فيها الأساتذة عن استخدام العصا في أغلب البلدان العربية.

أولا لابد لنا من التطرق إلى بعض الأسباب التي أدت إلى تفشي ظاهرة الضرب في المدارس العربية إلى اليوم. الضرب ظاهرة تعششت وتأصلت في البيت العربي، إذ لا تربية بدون ضرب في جل المنازل العربية إلا من رحم ربي، ولا يعد ضرب الأباء العرب لأبنائهم جريمة يعاقب عليها القانون على غرار البلدان المتحضرة في الغرب، كما حدث في عام 2013 حينما رأت إحدى المحاكم الفرنسية أن أبا بالغ في ضرب طفله ذو التسع سنوات على مؤخرته، فتم تغريم الأب 500 يورو. فتخيل معي عزيزي القارئ إن حدث ذلك في عالمنا العربي رغم أن الضرب يكون مهينا ومبرحا عندنا ولا مجال للمقارنة أصلا، فضرب الأباء العرب للأبناء يعد أمرا طبيعيا يترجم على أنه فعل محبذ يتنزل في خانة التربية الأصح.

ضرب الأولاد في المدارس قد يؤدي إلى انعزال التلميذ عن الآخرين حيث يصبح خائفا من الذهاب إلى المدرسة والاندماج مع أقرانه لما يتعرض له من إحراج بسبب ضربه

إن ذلك الحق المشروع في انتهاك حرمة جسد الأبناء من قبل الأباء قد انتقل إلى المعلمين في المدارس العربية بما أنهم "مربون" و"معلمون" في آن واحد تحت ذرائع أكاديمية، الملفت في الأمر أن استخدام الضرب كوسيلة عقاب هي الأسهل للبالغ الذي يستطيع معاقبة الطفل والمضي قدما عوض عن أن يشرح له بالحوار أن ما فعله خاطئ، ولأن المعلم يعي بأن الضرب أسهل بكثير من أن يكلف نفسه عناء الشرح فيلجئ للعصا، وما دامت التربية تساوي ضربا عندنا فلن يتخاذل بعض أولئك المعلمين في تطبيقه على التلاميذ بحجة أنهم يستمدون ذلك الحق في مواصلة التربية عن الأم والأب في تلك الساعات الدراسية .

حسنا إذا ما سلمنا بأن للضرب فوائد ملحة منعت العرب عن التخلي عنه برغم ما نراه من تدني دراسي مفزع، فلما تخلى الغرب المتحضر عنه وهو المتفوق دراسيا عنا؟ بكل بساطة لأننا لا نعير اهتماما لكرامة الانسان العربي. بعض الآباء لا يعيرون اهتماما لكرامة طفلهم بحجة أنهم هم المتحكمون في زمام الأمور وليس الأبناء ورضائهم من رضاء الله، والمعلم لا يعير احتراما للطفل التلميذ بتعلة أنه هو المتلقي والمستفيد وليس العكس ولا يستحق أن يعامله بكبرياء وكرامة فيشبعه ضربا إن حدث وقصر بشيء.

 

ثم يكبر ذلك التلميذ ليصبح طالبا ويرد العنف للأستاذ الثانوية ويسلبه كرامته كما حدث معه في صغره على يد معلمه ومن ثم يصبح ذلك الطالب مواطنا مسلوب الكرامة منذ الصغر مع مواصلة الحكومات العربية لسلبه إياها طوال بقية حياته. إذ أن ما نفعله ببعضنا هو دورة حياة متتالية لسلب كرامة بعضنا البعض لا أكثر.

كثيرا ما كنت أرى زملائي التلاميذ وهم يمدون أيديهم لتلقي ضربات العصا الغليظة وسط طقس بارد يقسم الأصابع، يتلقون الضربة تلك الأخرى، وكلما أرجع المعلم عصاه إلى الوراء كلما أحس أنه نجح في تربية ذلك التلميذ وحثه على الانتباه للدرس وهو غافل على أنه لا يربي فيه شيئا سوى أنه يدفع به للوراء لا أكثر، فأكثرهم كبروا مع مخزون عقد نفسية عششت في شخصيتهم.

في أحد الأيام أيضا، قد حدث وضربت المعلمة أخي الصغير، وحينما ذهبت للاستفسار ونهيها عن فعلتها وتذكيرها أن هنالك أساليب أخرى للتحفيز على الدراسة غير الضرب، اتخذت موقفا سلبيا حياله وهو إن قامت بإخباره أمام التلاميذ فور مغادرتي أنها من اليوم فصاعدا لن تهتم به وستعتبره غير موجود في الفصل. قد ألامه ما قالت له وعاد باكيا للمنزل، عندها عدت لها وأخبرتها ألا تتلاعب بمشاعره مرة أخرى وخاصة أمام زملائه. شخصيا لم يحدث إن ضربت في مدارس تونس إلا لمرة واحدة كنت قد استثرت غضب المعلم دون إن أتعمد ذلك، وحتى تلك المرة اليتيمة لم أستطع محوها من ذاكرتي لان طريقة استقواءه على جسد صغير ما هو إلا فعل متوحش لا يمكن إلا أن يقطع صلة التواصل بين المعلم والتلميذ فكيف بأولئك التلاميذ الذين يتلقون التعنيف يوميا.

الغريب في الأمر أن نسبة من الأباء يذهبون للمدرسة لمقابلة المعلمين لتوصيتهم بأن لا يوفروا جهدا في ضرب أبنائهم إن حدث وقصروا في شيء ما مع جملتهم الشهيرة "أعطيتك إياه لحما وأنت أعده لي عضما". فلما لا يستوعب العقل العربي طريقة تربية أخرى بغير استعمال الضرب وسحق كرامة الصغار؟ 

أن يبكي الطفل في مدرسته أو أن تصبح معلمته ومعلمه رعبه الأكبر، ذلك أقسى ما يمكنه أن يعيشه في صغره
أن يبكي الطفل في مدرسته أو أن تصبح معلمته ومعلمه رعبه الأكبر، ذلك أقسى ما يمكنه أن يعيشه في صغره
 

إن ضرب الأولاد في المدارس قد يؤدي إلى انعزال التلميذ عن الآخرين حيث يصبح خائفا من الذهاب إلى المدرسة والاندماج مع أقرانه لما يتعرض له من إحراج بسبب ضربه أمامهم فينتج عنه إما تلميذ عنيف يخرج من المدرسة ليبدأ إفراغ ردة فعله على زملاءه الأضعف منه بإبراحهم ضربا أو تلميذا مهزوز الشخصية. ربما يكون ذلك التلميذ المعنف يحمل استعدادا على أن يكون من الجيدين دراسيا إذ ما عامله المعلم بطريقة محترمة وحفظ له كرامته ولكن بمواصلة ضربه وتعنيفه، مستواه الدراسيّ سيأخذ بالتدني وسلوكه العام سيتراجع للأسواء نتيجة التأثير السلبيّ على شخصيته.

 

نفس ذلك التلميذ سينتقل لدورة حياة أخرى مليئة بالعنف ليحمل معه عقده التي كونها له المعلم إلى المرحلة الإعدادية والثانوية حيث سيبدأ بتفريغ شحنة العنف على الأستاذ نفسه لأنها نتيجة قهر وكره للمعلم في فترة الابتدائية حيث كان يتلقى الضرب يوميا وفجأة ذهب إلى الإعدادية التي يمنع فيها الضرب في أغلب المعاهد العربية كتونس مثلا. 

كنت قد درست مع طفل كان يضرب ضربا مبرحا يوميا لسبب ودون سبب، وعند انتقالنا للمرحلة الإعدادية وفور علمه بإن الضرب بات ممنوعا في هذا العمر بات يتمادى على الأساتذة لسبب ودون سبب أيضا وكأنه يرد الفعل لما تلقاه من عنف في المرحلة الابتدائية.

بعض المعلمين في وقتنا هذا يعانون من عدم معرفة الطريقة الأمثل لفرض هيبتهم أمام التلاميذ ولكي يتغلبوا على هذا الأمر باتوا يلجؤون إلى الضرب وبالتأكيد فإن أي معلم يفكر بتلك الطريقة الخاطئة سوف يُنتج للمجتمع مزيدا من النافرين للمدرسة وللعلم، لأن هيبة المعلم لا تأتي بالضرب بل بالتعامل الجيد مع تلاميذه مهما كان مستوى التلميذ متدنيا ولأن مهمته أن يعلم ويربي أجيالا قادرة على نفع مجتمعها فعلى الأقل إن لم يفلح المعلم بأن ينتج التلميذ دراسيا فحري به أن ينتجه تربويا، ولكن أن لا يغرس به أي من تلك الصفتين فماذا ننتظر منه عندما يصبح في سن المراهقة.

أن يبكي الطفل في مدرسته أو أن تصبح معلمته ومعلمه رعبه الأكبر، ذلك أقسى ما يمكنه أن يعيشه في صغره. فحري بأولئك المعلمين أن يتوقفوا عن تحويل مهنتهم الى كابوس مرعب للأطفال، وأن يعوا جيدا أن أي عنف سيتلقاه الطفل سينتج عنه عنف مضاد منه، وأي احترام سيتلقاه سينتج عنه احترام منه للأخرين. فإلى متى سنذل أبنائنا بالضرب في المدارس وكأنهم قادمون لمعسكر تجنيد وليس لمدرسة مهمتها نشر العلم والمحبة والاحترام المتبادل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.