شعار قسم مدونات

وضعية اللغة العربية وتطورات العصر

مدونات - اللغة العربية
لطالما مثلت اللغة العربية مقوما أساسيا من مقومات الحضارة العربية، وأساسا من أساسات الدين الإسلامي، حيث إنها فرضت نفسها بين اللغات السامية خصوصا، والسلالات اللغوية عموما؛ وذلك لاحتفاظها بمجموعة من الخصائص كانت ولا زالت تميزها، من حيث احتفاظها بحرف الضاد بين لغات السلالة سابقة الذكر، بالإضافة إلى خصائصها الأسلوبية، والتركيبية، والمعجمية التي تتيح لمتكلميها إمكانيات عديدة للاختيار (من الناحية التركيبية مثلا يمكن أن نستعمل رتب: فعل فاعل مفعول به كما في قَرَاْتُ كِتَابًا، أو مفعول به فعل فاعل به كما في كِتَابًا قَرَاْتُ، أو فعل مفعول به فاعل كما في قولنا قَرَأَ كِتَابًا الرَّجُلُ)، إضافة إلى إمكانيات الحذف، والتقديم والتأخير، إلى غير ذلك من الأساليب التي تكمن الناطق من يسر التعبير، وتجاوز عسر الإنشاء اللغوي.
   
لقد كانت اللغة التي اختارها الحق سبحانه وتعالى لبيان الرسالة من خلال قوله تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ۖ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " سورة إبراهيم الآية 4، ومن هذا المنطلق يكون الحق سبحانه وتعالى قد اختار العربية لبيانها، تكليفا وليس تشريفا، ولأن التركيب العربي قادر على استيعاب المعاني القرآنية، ليبقى السؤال المطروح أيها القارئ العزيز، كيف للحق أن يختارها لإيصال الرسالة، في حين نعتبرها ضعيفة لإيصال المعارف؟
 
أما من ناحية أخرى فاللغة العربية مؤسسة تمكنت من بناء صرح أدبي عبر تاريخها، حيث أصبح الأدب العربي متنا أدبيا لا يمكن تجاوزه حينما نتكلم عن الآداب العالمية، نبغ الشعراء منذ عصر ما قبل الإسلام وقالوا شعرا استعصى على شعراء الحصر الحديث تجاوزه، وقد وضعت ركائزه منذ عنترة، وامرؤ القيس، والنوابغ، والمهلهلين،… ومن أشعارهم ما لم يدرَّس، أو يبنى إنما كان بالسليقة، وعليه بنيت علوم أسست لصرح العربية، وقس على ذلك ما شهده الأدب العربي من رواية، وقصة، ومسرح لا يسع المجال للحديث عنها، غير أن تركيزنا على الشعر باعتباره ديونا للعرب.
  
اللغة العربية والتطورات الراهنة
المجتمع العربي يعيش أزمات جعلته يتذيل الترتيب في كل مؤشرات التنمية البشرية، وهذا ناتج عن ضعف اقتصادي تعرفه المنطقة العربية على الصعيد الاقتصادي والسياسي

لا شك أن الملاحظ والمتتبع للوضع الراهن يلاحظ مدى التطور الذي وصلت إليه البشرية على كل الأصعدة؛ العلمية، والتقنية، والأدبية، حيث إننا نعيش عصر التطور التقني الذي نقلنا من عصر التخطيط والتدوين، والقرطاس، والجلد، إلى عصر الطباعة والرقمنة، عصر أصبحت فيه المعرفة متاحة للجميع، ولا يحتاج المنتجون الوقت كما كان في سالف الأزمان.
 
فقد أصبحنا نعيش في ظل صراع حضاري محتدم، وفي ظل ثقافة كونية تحاول القوى التي نجحت سياسيا واقتصاديا فرضها، وبالطبع فإن هذا التطور ستكون له انعكاسات إيجابية كما ذكرنا، وسلبية من حيث طمس الهويات المحلية، لأن السياسات التسويقية تفرض أحيانا الدفع بالحرب الثقافية بديلا للحرب التقليدية؛ لأن العصر أصبح يفرض على الدول العظمى، والشركات العملاقة خوض حروب، والخروج بأقل الخسائر.

ومما لا شك فيه أن العربية في ظل الظروف الراهنة تعيش حربا مع اللغات الحية الأخرى، بحيث إنه من المنظور الديني يلزمها البقاء، أما من المنظور الاجتماعي فأهلها تخلفوا معرفيا، بحيث إن الاعتماد على الأجنبي بديلا ولد عجزا أمرض العقل العربي.
 
من ناحية أخرى فالمجتمع العربي يعيش أزمات جعلته يتذيل الترتيب في كل مؤشرات التنمية البشرية، وهذا ناتج عن ضعف اقتصادي تعرفه المنطقة العربية على الصعيد الاقتصادي والسياسي، مما جعل الثقافة العربية تقدم مجموعة من التنازلات أهمها: التخلف عن استعمال اللغة العربية في مجالات الحياة العامة، وكذلك مما يبدو جليا الهيمنة التي أصبحت تمتاز بها اللغات الأجنبية في عالمنا العربي على حساب اللغة الأم.

 

الأزمة التي تعيشها اللغة العربية

 

undefined

 

لا شك أن اللغة العربية لا تعاني أزمة داخلية؛ أي من خلال علومها لأنه وكما بيننا أنها على ضخامة معجمها، وتعدد إمكانيات التركيب فيها، وتنوع أساليبها؛ تمكن متكلميها من وضعيات لغوية عديد، لكن المشكل يكمن في أهلها الذين تخلوا عنها بسبب عقدة الأجنبي، لدرجة أن تكلم لغة أجنبية صار علامة التحضر في وطننا العربي، وأصبح الحديث بالعربية ينظر إليه من منظور الغرابة، ومن المشاكل التي تثبت الأزمة التي تعيشها العربية:

 

– غياب استعمال العربية في المؤسسات الرسمية، وغير الرسمية، بحيث إن جل الوثائق تتم باستعمال إما الفرنسية، أو الإنجليزية.
– طغيان التوجه الفرانكوفوني، والأنجلوساكسوني في الأوساط الثقافية العربية، بحيث وصل الأدب، والفكر العربي إلى دركة يرثى لها.
– غياب الوعي الاجتماعي بأهمية اللغة العربية، بصفتها مكونا حضاريا من مكونا الحضارة العربية.

 
وحاصل القول إن اللغة العربية قد عانت الإقصاء، والتهميش بدريعة أنها ليست لغة العلم، والتقنية، في حين نرى أن الأمم التي كانت متأخرة إلى عصر قريب، وتسلقت سلم التقدم العلمي، والتقني، بحيث استعمل فيها أهل الاختصاص اللغات الوطنية، مثلا ف اليابان تحقق الثورة التقنية بفضل اللغة اليابانية لا بغيرها، لأنهم لا يؤمنون بالأجنبي كما نؤمن به نحن، وإنما اعتمدت الترجمة كآلية من آليات النقل، لا استئصال مكون حضاري؛ لأنه بهذا تقع هوة ثقافية تموت معها القيم قيم الهوية والمواطنة.

 

لهذا ينبغي على كل عربي أن أي نهضة حقيقية إنما تمكن من خلال ما هو متجدر في ثقافتنا، لا في استيراد الجاهز.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.