شعار قسم مدونات

وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ

مدونات - تحرش

لم يكن فيلمًا هنديًا ولا مسلسلًا تركيًا، بل كان مشهدًا حقيقيًا خلّده أعظم كتاب في التاريخ وهو القرآن الكريم. تلك هي امرأة العزيز -زليخة- وذلك هو يوسف الصدِّيق، قوتان من الجمال جمعتهما تلك اللحظة شهوة امرأة، وما أسوأ المصائب عندما تجلبها الشهوة! كان ذلك القصر الباذخ مليء بالخدم والحشم، كلٌ يعمل بما وُكِّل إليه وكأنهم النحل في الخلايا، أحدهم يرتب الورود والآخر يشعل الأنوار وهناك جواري يعطِّرن المكان بالبخور والطيب، لو نظرت إلى الطرف الآخر لوجدت غلمان يسقون الأزهار وجارية أخرى عاكفة فوق رأس امرأة العزيز تجمِّلها وترتِّب خصلات شعرها بعناية أمام مرآة كبيرة تحفّها ستائر وردية وأضواء خافتة في أركان الحجرة، دعني أصدُقُكَ القول أنك لو دخلت ذلك المكان لشعرت وكأنك نزلت بمخدعٍ هُيئ لحوريةٍ في طرف الجنة من شدة ما يحمله من جمالٍ وبهاء. 

تصرفات امرأة العزيز ذلك اليوم ومدى عنايتها بملابسها وجمالها لم يكن طبيعيًا كعادته، فقد شغف حبّ ذلك الغلام الكنعاني -يوسف- قلبها وخيّم سحر جماله على عاطفتها فاستولى على لبِّ عقلها وحتى تجسَّد لها في جلَّ أحلامها مما جعلها تتصرف بجنونية عابثة، ولا ألومها على ذلك فمن يعشق مثل ذلك الجمال لا يُلام في عشقه وولهه وإن فرط. في لحظة من اللحظات خرجت زليخة من مخدعها بعد أن تجمّلت بكل ما يليق بها كملكة مصر كلها فاستدعت كبيرة الخدم والجواري وأمرتها بصرف الجميع عن المكان وإغلاق جميع الأبواب التي تؤدي إلى حجرتها الخاصة، ثم أمرتها أخيرًا باستدعاء يوسف والذي كان يعمل خادمًا لديها.

 

غضَّ بصره عن مفاتنها محاولًا تجاهل ما كانت تفكر فيه ولكنها لم تتوقف تلك اللحظة، فلقد وصلت من الهمِّ بالوقوع به إلى مرحلة استحكم فيها على كل جوارحها

ها هي اللحظة التي خططت لها أتت وها هو يوسف يدخل بجسمه المفتول وعلى وجهه من الُحسن والجمال ما لو قُسِّمَ على شطر من في الأرض لكفاهم كلهم، كيف لا وهو الرجل الذي لم ولن يأتي من يحمل جمالًا يضاهيه فحسن جماله كان نادرًا لدرجة أن الصورة تعجز عن التعبير عنه. ها هو دخل مخدع زليخة ليرى نفسه أمام امرأة فارهة، عليها من الجمال والزينة ما تكفي لإغراء أكابر الرجال. كعادة العبيد الإذعان لأسيادهم وتنفيذ أوامرهم وإلا بإشارة واحدة قد يُدفن تحت موضع قدميه.

 

اقتربت زليخة من يوسف وأنفاسها تتسارع من لحظة لأخرى حتى وقفت أمامه بأناقة فائقة، تختزن في عقلها مدنٌ من الأفكار لكم بنتهم بخيالاتها ليالٍ طوال، ها هي تفكر "ما الخطوة التالية يا ترى؟!"  عمَّ المكان بعض الهدوء، إنها اللحظة الحاسمة، واللحظات الحاسمة كل شيء فيهنَّ محتمل. ببراعة ولين حاولت التودد إلى يوسف وإبداء بعض مفاتنها حتى يشتهيها إلا أنها لم تفلح في ذلك، فقد أحسَّ يوسف حينها بالغرض من استدعائها له وعرف الهدف من إغلاقها لأبواب حجرتها وإخراج العبيد والجواري من مخدعها.

 

فغضَّ بصره عن مفاتنها محاولًا تجاهل ما كانت تفكر فيه ولكنها لم تتوقف تلك اللحظة، فلقد وصلت من الهمِّ بالوقوع به إلى مرحلة استحكم فيها على كل جوارحها مما جعلها تفقد سيطرتها على نفسها فعصفت بها عواطفها واحتدمت لتطلب منه مصارَحَةً بأن يضاجعها قائلةً "هيتَ لك" أي لقد تهيأت وتزينت من أجلك أنت، ليس لأحدٍ غيرك فهلُم واقترب. إن ذلك التصرف إذا دلَّ فإنما يدل إلا على أنها قد بلغت النهاية في الكشف عن رغبتها حتى وقفت في مكان الطالب لا المطلوب، وذلك ما ليس بمعتاد من جنس النساء.

تجمَّد يوسف مكانه يستعيذ بربه منها، فأي مصيبة سيُقدِم عليها لو أنه قام بذلك وأي لعنةٍ ستحل عليه لو أنه فقط همَّ بالأمر وكيف له أن يخون من أحسن إليه وأكرمه، فتلك والله خيانةٌ لا تُغفر. امتنع يوسف عن الأمر محاولًا تبرير خطأ ما رتَّبتْ له قائلًا "مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ" فاستهل بها من استهل بمن صدم بمسعاها ومبغاها، لذا عندما أحسَّت بالهزيمة أمام صلابة يوسف في مبدأه أخذتها الأنفة واضطرمت معها نيران شهوتها، فاجتمع إلى جانب غرضها الأول غرضٌ آخر وهو رد الاعتبار لكرامتها ومكانتها.

 

حينها وفي نفس الوقت لم تعد تتحمل أن ترى نفسها منهزمة أمام عبدٍ اشترته بمالها وتراه في نفس الوقت بذلك الحسن الملائكي يعيش معها كل يوم في نفس قصرها بينما هي تقف أمامه عاجزة. حقًا، إنها قمة الألم أن ترى نفسك أسيرًا لشيءٍ لست تملكه وإنها قمة الأنانية بأن تُصرّ على شخصٍ ما إعطائك شيئًا هو لا يريد إعطائك إياه بالتحديد.

اللحظة الشيطانية نزغت بينها وبين مصيرها فتمادت في الأنانية وهي لم تفطن بأن اللحظة الشيطانية قد تدفعها لفعل حماقات ربما تجعلها تدفع الثمن غاليًا فيما بعد، بدأت الكلمات القاسية تختلط الجُمل التي تستخدمها وزادة حدة أوامرها نحو يوسف محاولة تذكيره بأنه عبدٌ مملوك تحت إمرتها ويجب عليه إطاعتها وتنفيذ ما أمرته به، إلا أنه رغم كل ذلك لم يتراجع عن مبدأه أبدًا فكان ذلك عقابًا قاسيًا لها وجديرٌ بأن يوقظها من غفلتها بعد أن كانت أسيرةً لشهوتها الحرام.

لم يسع زليخة أخيرًا إلا أن كذبت على زوجها فكادت يوسف حتى أودعته في السجن بتهمة أنه أراد بأهل العزيز السوء ليبقى سبع سنين متتالية بتهمةٍ كان بريئًا منها

هدوءٌ تراجيدي عمَّ المكان؛ يوسف لا يعرف الآن ما الحيلة للخروج من هذه المحنة فالأبواب مغلقة وزليخة لا تعرف أي طريقة تستخدمها ليقوم بما خططت من أجله فقد امتنع عنها وليس بيدها الآن أية حيلة. نعم، ربما استطاعت زليخة بقوة مُلكها أن تغلِّق جميع أبواب القصر لكنها لم تستطع إغلاق قلب يوسف عن الإيمان بربه مما جعلها تقف أمام المحنة والجمال ضعيفة مهيضة وكأن ذلك الموقف جرَّدها من مكانتها كملكة مصر كلها لتنقل لنا درسًا يقول في فحواه أن المرأة مهما عظمت مكانتها وقوة شخصيتها إلا أنها تبقى ضعيفة مهيضة ما إن استسلمت لشهوتها.

 

اشتاط غضبها ولم يعد أمامها الآن سوى استخدام قوة الكيد لديها؛ وذلك سلاح من استخدم لضعفه قوة حيلته. صفعت يوسف لعله يضربها فيكون تصرفه ذلك دليلًا على تهجّمه عليها وخيانته لسيده -عزيز مصر- فترُدّ بذلك اعتبارها وتزداد مكانتها لدى زوجها، وحتى قد يشعر يوسف بخطر الموقف عليه فيقبل ما عرضته عليه من قبل وتكون حينها قد نالت ما أرادت.

 

ها هي الأمور بدأت تجري كما كادت له، فعلى الرغم من قوة ذكاء يوسف وحكمته إلا أنها استطاعت حقًا أن تجعله يهمُّ بضربها، فأثبتت من ذلك الموقف بأن المرأة ما إن تشعر بالضعف تستخدم قوة كيدها فتتكسر أمام تلك القوة البصائر والعقول، وقد كان سيقع يوسف حقًا في شراك امرأة العزيز لولا أن الله ألهمه أمر الهروب للنجاة من ذلك الموقف، وفعلًا فعل كما أُمِر وحاول الهرب، لكن ذلك الهرب انتهى بمصيبةٍ أخرى، فقد لحقت به امرأة العزيز فشقَّت ثوبه محاولةً إيقافه عن الهرب ليتفاجأ الاثنان بعزيز مصر -زوج زليخة- أمامهم.

 

وهنا كمنت المصيبة الكبرى للجميع، فموقفهم ذلك لا يعني سوى خيانة أحدهم لا أكثر ولا أقل، لم يسع زليخة أخيرًا إلا أن كذبت على زوجها فكادت يوسف حتى أودعته في السجن بتهمة أنه أراد بأهل العزيز السوء ليبقى سبع سنين متتالية بتهمةٍ كان بريئًا منها براءته من دم الذئب لكنه بعد كل تلك الفترة الطويلة من الكيد والبكاء والحبس والآلام والفرقة عن الأهل علم عزيز مصر بمدى وفاءه وصدقه فأخرجه من السجن ليصبح فيما بعد المستشار الأول لحاكم مصر ورئيس خزائنها، وكانت تلك النتيجة هي جائزة له من الله تعالى على قوة صبره واحتسابه فنال مُراده.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.