شعار قسم مدونات

"الموهبة" منحة إلهية خالصة.. كيف نعثر عليها؟

blogs تأمل

إنها الحياةُ إذن.. تضعنا تفاصيلُها المرهقة في مواقف لا نريدها، تملأنا بالحيرة وتكبلنا بالظروف القاهرة وتكسّر مجاديفنا بحجارة المصاعب والمشاكل، مثقلين بالأمل الضئيل نكافح أعاصيرها وبراكينها، حاملين شمعةً يوقدها ما تبقى من عزم في قلوبنا علّنا نبعث في لياليها نورًا يخفف من وحشتنا.

(المساواة لا تعني العدل بالضرورة)، هذه المقولة واحدة من المقولات العبقرية.. رغم بساطتها وقلة كلماتها إلا أنها واحدة من الأسس التي عليها قام نظام الكون، ومن خلال الإيمان بها سوف نستوعب حكمة قانون الرزق الإلهي والذي يشمل المال والصحة والموهبة الخاصة والشعور النفسي.. وعلى ضوء فطرة الاختلاف التي جبلت عليها البشرية، اختلاف القدرات الجسدية والنفسية هل من العدل أن يكون للجميع نفس القسمة من المال والصحة وسلامة النفس؟ وهل يكون للاختبار قيمة ومعنى لو أن الجميع أجابوا على نموذج واحد من الأسئلة بغض النظر عن قدرات كل فرد وإمكانياته وجاهزيته؟ 

إن العدل الإلهي الحكيم ساوى بين جميع البشر، فانظروا من حولكم ستجدون جميع البشر متساوين بشكل أو بآخر في مجموع ما وُهبوا وما مُنعوا.. تجدون صاحبَ المليارات المكنوزة والأملاك التي لا تعد ولا تحصى عليلًا في صحته أو مضطربًا في نفسيته، وتجدون الفقير المُعدم الذي بالكاد يجد قوت يومه ولكن صحته الجسدية في أفضل حال. وهنا بالذات يكون الاختبار مقنعًا، فالله سبحانه وتعالى لم يفرض الزكاة إلا على الغني ولو أننا حكّمنا المساواة في هذا الأمر لكان من الظلم أن تفرض على الفقير وعلى هذا الأساس نستطيع قياس الكثير من الأمور كالصلاة والصيام والحج وغيره.

لا شيء يصيبنا بالحزن أكثر من رؤية الكثير من الناس تائهين في ميادين العمر لا يهتدون إلى طريق، يعيشون حياةً لا يريدونها ويقضون أعمارهم في مهن لا يحبونها

كثيرًا ما تكون الظروف أقسى من قدرتنا على رؤية امكانياتنا الخفية وقدراتنا المدفونة، لكن من سابع المستحيلات أن يكون أحدنا خاليًا من موهبة ما مهما كانت.. ربما تكون الشعر وربما تكون الحدادة وربما تكون القدرة على قيادة الأمم أو قيادة السيارات.. الفكرة في العثور عليها وتبنيها وتطويرها وعدم الانجرار وراء الوهم بتبني مواهب ليست لك ولا تليق بقدراتك الجسدية أو النفسية فقط لمجاراة شريحة ما في المجتمع أو للتجربة واللهو. أعلم أن العمر مجموعة من التجارب لكن على الأقل فلتكن تجارب نريد أن نخوضها في شيء نحبه ونستطيع تحمل الخسارة بصدر رحب من أجله، إن النجار الموهوب الذي سعى لتطوير نفسه سيكون في حال أفضل ماديًا ونفسيًا واجتماعيًا من الطبيب الذي أجبره أهله أو ضغوطات المجتمع على دراسة الطب وهو لها كاره.

 

تجد الأول أغنى وأشهر من الثاني الذي بالكاد يستطيع الحصول على وظيفة حكومية بسيطة تقتل عمره رويدًا رويدًا، إنه من العيب احتقار أي ملكة من الملكات البشرية، بالعكس يجب أن يفهم الناس أن كل المواهب والمهن محترمة وضرورية لاستمرار الحياة البشرية، وللأسف فإن المجتمعات المغيبة المجهّلة لا تفهم هذا الكلام وترى أن المجد يقتصر فقط على بعض المهن كالطب والهندسة بغض النظر عن القدرات العقلية والنفسية اللازمة لهاتين المهنتين.

لا شيء يصيبنا بالحزن أكثر من رؤية الكثير من الناس تائهين في ميادين العمر لا يهتدون إلى طريق، يعيشون حياةً لا يريدونها ويقضون أعمارهم في مهن لا يحبونها ويتقمصون أدوارًا لا تليق بهم في مسرحية الحياة، في أحسن الأحوال (إن لم يكونوا معذبين) ستمر أيامهم بلا معنى، لذلك فالأمر على صعوبته ضروري، ليس من السهولة أن تعثر على موهبتك، بالعكس هذه أصعب عملية بحث قد تخوضها على الإطلاق، وحتى إذا وجدت ضالتك فالمشوار أمامَك طويلٌ شاق مفروش بشوك التحديات الجسام، ولكن اللذيذ في الموضوع أنك وقتها حتى لو أتعبتك الحياة فسوف يكون التعب في سبيل جائزة واضحة تستحق التضحية ألا وهي تحقيق الذات.

الموهبة تعني أن تقوم بأمر ما باحترافية عالية بوقت وجهد أقل من الطبيعي.. وباعتقادي أن الموهبة هي منحة إلهية خالصة إلى عبده الإنسان تسبح في خلايا الدم الأولى التي يضخها القلب بعد صرخة الميلاد، وهنا قد أكون متعارضًا مع رأي الكثيرين الذي يقولون بمبدأ تعليم الموهبة، نعم لا بد من تطوير الموهبة لأنها من دون تطوير وتدريب مجرد مادة خام، لكن من غير المنطق تطوير شيء غير موجود أساسًا! وفي ضوء التعريف الذي أسلفناه للموهبة علينا أن نفرق بينها وبين القدرة التي تنتج عن التدريب والتطوير فقط، في الشعر مثلًا هناك ناظم وشاعر، الناظم شخص لديه القدرة اللغوية والموسيقية الكافية لنظم الشعر وفق أسسه العروضية والموسيقية البدائية، لكن الشاعر بالإضافة إلى ما يستطيع الناظم فعله فإنه يكتب شعرًا أي أنه يمتلك أدوات الشعر جميعها من خيال وحس عميق وحساسية مفرطة أمام المشاعر الإنسانية وقدرة خرافية على تحليل النفس البشرية بالإضافة إلى أشياء مزروعة بالفطرة كالتصوف والاقتناع بجدوى الفلسفة وضرورتها.

العثور على موهبتك سيوفر عليك الوقت وسيمنحك مغامرةً شيّقة تستحق المحاولة، وكلي أمل أن تصبح مجتمعاتنا يومًا حاضنة للمواهب
العثور على موهبتك سيوفر عليك الوقت وسيمنحك مغامرةً شيّقة تستحق المحاولة، وكلي أمل أن تصبح مجتمعاتنا يومًا حاضنة للمواهب
 

إن تبني موهبة ما يعني أن تحيا في سبيلها وأن تمنحك دافعًا للاستمرارية وقدرةً فائقة على التحمل، وإنه من السذاجة أن نحتمل الألم من أجل شيء لا نرى أنفسنا فيه، وهنا تبدأ معضلة أخرى شديدة الخطورة وهي أن يري الإنسان نفسه في مكان لا يليق به، وهذا غالبًا ليس ذنب الأشخاص الذين يقعون في هذا الوهم بل ذنب المحيطين بهم، كالوالدين الذين يريدان لابنهما أن يدرس تخصصًا جامعيًا ما فقط لأن العائلة اشتهرت به عبر الأجيال بغض النظر عن طموحات الفتى ورغباته، إنه ذنب المعلمين الذي يقنعون طالبًا أو طالبة بأنهما شاعرين لأنهما صعدا مرةً على منصة الإذاعة المدرسية. لذلك علينا أن نقتنع بأن الموهبة تعني القدرة لا الرغبة، والحياة لا تؤخذ بالأمنيات.

كيف نستطيع العثور على مواهبنا؟

لا أكتمكم سرًّا بأن هذا السؤال من الأسئلة الوجودية التي تحاصر الإنسان. ولكنني قد أستطيع تسهيل المهمة ولو قليلًا:

 

أولًا: لا بد أن تكون موهوبًا في شيء تعشقه حد الجنون.. وهذا أمر بينك وبين نفسك والشاهد عليك فيه قلبُك وشعورك الخالص بعيدًا عن مشاعر وتأثير الآخرين مهما كانت درجة قربهم منك.

ثانيًا: شيء أنت قادر على فعله.. لا بد أن تكون منطقيًا في رحلة بحثك وألا تمنّي نفسك بأشياء تدرك أنها لا تصلح لك، وهنا لا أدعو إلى الإحباط بل إلى العقلانية التي تعصم الإنسان من الوقوع في آبار الوهم القاتل.

ثالثًا: لو لم تكن عملية العثور سهلة، عليك بتجربة الكثير من الأشياء والمهارات لأن الموهبة ستظهر بشكل واضح في إحداها.

رابعًا: إياك من اليأس وأنت تبحث عن موهبتك وعليك أن تضع في عقلك أنه من المستحيل خلوّك من موهبة ما حتى وإن طال وقت العثور عليها.

 

في النهاية، أتمنى أن يجد الجميع مواهبهم وللأمانة فإنني أحسد المجتمعات المتحضرة التي توفر البيئة المناسبة لإيجاد المواهب والاعتناء بها، بدءًا من المدارس والنوادي والمراكز الاجتماعية. لأن العثور على موهبتك سيوفر عليك الوقت وسيمنحك مغامرةً شيّقة تستحق المحاولة، وكلي أمل أن تصبح مجتمعاتنا يومًا حاضنة للمواهب وجاذبة للطاقات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.