شعار قسم مدونات

الثقب المعرفي والأخلاقي

BLOGS المغرب

أثرت استعارة عبارة الثقب من العالم الاجتماعي (ملك بن نبي)، لكي أقارب بها هذه الإشراقة الثالثة من إشراقاتي التي أدونها، والتي أسعى من خلالها بيان تجليات هذا الثقب المعرفي والأخلاقي الحاصل في المجتمع العربي. وتوالت على هذا الثقب تساندات كثيرة تبدت لنا فيها أشياء ينبغي أن تقال، وأخص فيها الحاضرة المغربية. والمقالة في هذه المواضيع قد قيلت وتكررت ولكنها لا تجد مُستمعا يستمع لها، ولربما السبب في ذلك عدم فاعلية الإعلام في بسطها أمام عامة الناس، أو لعدم رغبة العامة في معرفة ما جد به المفكرون العرب، الذين يسعون لغاية واحدة، هي سد ثغرة الثقب المعرفي والأخلاقي الذي أصاب المجتمع، ولذلك فما ستسفر عنه هذه الورقة أمر معلوم لا يجهله جاهل، ولا يكذبه الواقع.

مبدئيا نقول إن عنوان المقالة استعاري، أعني به أن ما نعيشه اليوم أمر يسيء لأمة عربية كانت أصالتها المعرفة والأخلاق، والغرض منها أننا نسعى لتفسير الأمور وتوضيحها؛ وليس مقصودنا التغيير، الذي يكون بتغيير الذات أولا، ثم إن التغيير أو التحويل لا يكون من فرد واحد، بل من عمومية الناس.

نرى في مغربنا اليوم بعض المشاهد المسيئة والدنيئة، التي في الضرورة ترجع إلى جيل اليوم الذي يسعى إلى أمور لا تفرضها طبيعة المجتمع، وعلينا أن نفهم كما قال مالك بن نبي، أن كل ثغرة تحدث في المجتمع فالمسؤول الأول على سدها هو الشعب، إما بضميره أو ماله، ووعيه أيضا، وهذه المسألة حاصلة اليوم؛ إذ ظهرت في المجتمع المغربي ثقبا خطيرة جدا، ولكننا قصرنها في الجانب المعرفي والأخلاقي، ونوضحها فيما يأتي:

السعي وراء المعرفة الجديدة ولستَ مالكا لمعرفتك فذلك ثقب معرفي يجب أن يعالج وإلا أصبحت المعرفة غير مستقيمة وتنشئتك الاجتماعية

فالثقب المعرفي هو أن أغلب شباب اليوم يسعون إلى معرفة جديدة، وهم لا يعرفون شيئا من معارفهم واسهاماتهم الثقافية والعلمية لأمتهم، وتغييبهم لهذا الإطار يؤدي إلى إحداث ثقب معرفي عميق، واحسبه بالأمر الخطير؛ إذ السعي وراء المعرفة الجديدة، دون اكتساب نسق تنضبط وفقه، يجعلها معرفة تعود بالأثر السلبي على صاحبها، وإن عدم اكتساب الشخص لما قدمه القدماء، قد يجعله عاجزا عن ضبط ما يسميه بالحداثة أو ما بعد الحداثة، فإنه يسير فقط وفق موضة، يكون فيها هو الخاسر الأكبر.

 

إذ لا يضبط مساره المعرفي ولا مسار غيره الذي يسعى إليه، مقدما لهذا الزعم حجة الحضارة والتقدم، والأمر ليس مرتبطا بالتقدم، أو المعاصرة، أو شيء من هذا القبيل، ولكن في عدم معرفة نسقك وتسعى إلى نسقية أخرى؛ لأن جهلك الكلي بمن حولك وبما يحيط بمعرفتك الأصلية يحدث فراغا مهولا، وشرخا معرفيا هو آفة كبيرة بالطبع، وأقدم لك دليلا على الإنسان الغربي، الذي يعرف ثقافته جيدا، ومعارف علمائه، فيضبطها ضبطا جيدا، ثم يسعى إلى معارف أخرى خارجة عن نسقه الذي نشأ فيه وتربى عليه، ولست ضد معرفة ما استجد به الآخرون؛ لأن طبيعة العلم اليوم كونية لا تختص بأحد دون آخر، لذلكم فالأساس الذي نبتغيه أن السير وراء معرفة جديدة لا يكون بتجاوز المعرفة النسقية التي انبنى عليها فكر الشخص أصالة. والسعي وراء المعرفة الجديدة ولستَ مالكا لمعرفتك فذلك ثقب معرفي يجب أن يعالج وإلا أصبحت المعرفة غير مستقيمة وتنشئتك الاجتماعية، وعليه فمعرفة الشيء الجديد قائم على ضبط الشيء القديم، حتى لا تصاب بالثقب المعرفي.

وأما الثقب الأخلاقي وهو الأمر الخطير الذي ما عادت تذكر له أسس في مجتمعنا، لكونه الأس الذي تنبني عليه كل ثقافة، والذي وضعه مالك بن نبي ضمن الأهميات التي تؤسس لمجتمع قائم له قواعده ومآسيسه، فالأخلاق كما هو معلوم مبدأ مهم أهميته ظاهرة في السمو الإنساني الذي يجعله من يكسب الشخص صفة الإنسانية، والملاحظ أنه قد تفشت في مجتمعنا المغربي مسائل غير أخلاقية في كثير من شبابنا، والأمر راجع بالضرورة لهم لا إلى العائلة والأسرة؛ لأن الآباء والأمهات فطروا على قدرة ربانية هي التعامل مع الأبناء بالعاطفة، وتربيتهم دون عنف وتقميع، ولن أحمل المسؤولية لهم، ولكن أحملها لهؤلاء الشباب، بكونهم يبتغون الوصول إلى فرض ذواتهم بأي وسيلة توفرت، إنهم يسعون إلى النجومية دون الاكتراث إلى الجانب الأخلاقي.

أنى لأمة أن تصل إلى تقدم وتطور وهي تفقد ركيزتين رئيسين المعرفة والأخلاق
أنى لأمة أن تصل إلى تقدم وتطور وهي تفقد ركيزتين رئيسين المعرفة والأخلاق
 

وهذا الثقب الأخلاقي قد عَم مناحي شتى، فلك أن تنظر إلى طريقة التعامل، واللباس، والعيش، وتزيين، وأشياء كثيرة تطول إذا حاولنا التفصيل فيها، ولكن الفكرة من الثقب الأخلاقي الذي أصاب الجيل المغربي اليوم، ثقب خطير ينبغي أن تسد ثغرته بتوعية من المؤسسات، ومن الشارع، ومن الدولة أيضا، فلها أن تنظر في حل سريع، فما تسير وتجري عليه السفينة يابس، ومن يقود القافلة عمٍ، ومسالك النجاة والسلامة معقودة على اعادة بناء المؤسسات من جديد، فهي أدوات اصلاح لجيل فقد الأخلاق باعتبارها المبدأ الذي تقوم عليه كل أمة.

إن المغرب اليوم يعيش ثقبا معرفيا بدا نزيفه مؤثرا بشكل خطير، وثقبا أخلاقيا هو السم القاتل لجيل ننتظر منه الشيء الكثير، وأنى لأمة أن تصل إلى تقدم وتطور وهي تفقد ركيزتين رئيسين المعرفة والأخلاق. وفي الأخير فما أبانت عليه هذه الورقة أمر حاصل، ليست غايتنا منه القدح أو المدح، وإنما نقل ما يحصل في عالم الواقع إلى عالم الكتابة، لعل القارئ يدرك مسألة الثقب الذي استعرته من المفكر الجزائري مالك بن نبي، لمقاربة ظاهرة تحدث عنها الناس كثيرا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.