شعار قسم مدونات

ليس للشعب إلا الشعب

BLOGS طائرة بوفريك

نجح الشعب الجزائر في امتحان حادثة سقوط طائرة بوفاريك التي راح ضحيتها 257 شهيدًا من خيرة شباب الوطن، حيث أبان الشعب على روح تعاون وتآزر منقطع النظير بين أفراده، وما آلاف المنشورات والتغريدات على مواقع التواصل الاجتماعي إلا سفح الجبل الذي ظهر للعالم أجمع، تنضوي تحته عديد المبادرات الفردية والجماعية للتخفيف من وطأة الفاجعة على ذوي الشهداء.

هذا التفاعل مع المأساة أحيا في نفوس الشيوخ ذكرى ثورة نوفمبر، وفي نفوس الكهول -الذين شهدوا أحداث العشرية السوداء- مشاعر التضامن وكأنهم جميعا على قلب رجل واحد في مواجهة من قتلوا دون وجه حق، أما نحن الشباب الذين لم نشهد ثورة التحرير وما ندرك منها إلا ما خزنته ذاكرة كبارنا، وما سربته لنا بعض الآثار وما احتضنته دفات الكتب، ولم نكن في سن يسمح لنا بالتفريق بين القاتل والمجاهد ولا بين الشهيد والقتيل إبان العشرية السوداء، ولم تختبر الحياة قبل ذلك اليوم وتمتحنا نحن أيضا كما فعلت بأبائنا الأولين، فكانت حادثة طائرة الأليوشن فرصة لنا لنقف نحن كذلك ولنسجل موقفنا في التاريخ.

زغردت أم الشهيد والعبرات في مآقيها تخنق زغرودتها التي امتزجت بأنين الألم، تماما كما امتزج دم وليدها مع تراب وطنه، ودثرت جثمان ابنها بالدعاء وبالعلم، ولم تنس وهي تدعو لفلذة كبدها بالمغفرة والرحمة، أن تدعو للجزائر بدوام الأمن والأمان ولو كان الثمن ما تبقى من جثة ابنها المسجى أمامها. بينما ردد والده الرجال فداء للوطن يموت ابني ويحيا الوطن لم أنجبه إلى ليوم كهذا ولم أدخره إلا ليكون حامي الحمى، فيما لم يتأخر أصحاب الشهيد في احتضان والدة الشهيد وتقبيل يدها تباعا تماما كما كان يفعل صديقهم مؤكدين أنهم كلهم أبناءها فإن فقدت واحدًا تداعوا لها جميعا ملبين النداء ملتفين حولها.

التعازي القلبية الصادقة لأسر الشهداء لا لرئيس الجمهورية، والتحايا الحارة للشعب الجزائري -لا لأعضاء الحكومة- الذي وقف وقفة رجل واحد في وجه تكاليف الدهر ومفاجأة الأيام

الشعب وحده داوى جراح بعضه البعض، وحمل الشهداء في قلبه للأبد وعلى كتفيه إلى مثواهم الأخير. وفتح آل البليدة بيوتهم على مصراعيها لاستقبال أسر الشهداء الذين تقاطروا على المستشفيات يهيمون على وجوههم بحثا عن أشلاء داخل كيس تسمى جثة ابنهم الجندي، ومن ضاقت بهم البيوت نُصبت لهم الخيم تقييهم ما استطاعت القر والمطر، فالجزائر العميقة وحدها من تُحس بألام بعضها. فيما -للأسف- كان تفاعل الجانب الرسمي محتشما جدا فوزير الشؤون الدينية أدى واجه إزاء الشعب بـ" قصعة كسكس"، بينما وزير الرياضة فبعد أن اصطبر مدة الحداد الذي دام 3 أيام ولم يتأخر في اليوم الرابع عن إعلان عودة المباريات إلى سابق عهدها، فيما لم يستطع التلفزيون الرسمي الجزائري الاحتمال أكثر وبث برنامجه الخارق للعادة "ألحان وشباب" الذي يقوم على الغناء والرقص أساسا في اليوم الرابع.

أما قطاع الصحة ممثلا في إدارة مستشفى البليدة التي اطمأنت واستراحت من حِمل جثث الشهداء إثر نقلهم لمستشفى عين النعجة العسكري، تناسوا أن ناجيا من بين ركام الطائرة يمكث بالمستشفى قصد العلاج وأرسلوه إلى بيته بكل ألامه الجسدية منها والروحية. ولم تتأخر الشعوب العربية -لا الحكومات- في التعبير عن تعاطفها المطلق مع الشعب الجزائري إثر المصاب الجلل الذي ألم به، وكان أهل غزة كعادتهم سباقين في كل خير بالإضافة والكثير من شعوب -لا أنظمة الحكم- بالبلدان العربية. فيما فضل البروفيسور زغلول النجار التنقل إلى الجزائر واتجه إلى بيت الطيار إسماعيل دوسن الذي جنب الجزائر حصيلة كانت ستكون كارثية لو أنه لم يكن ببراعته تلك، وتربط الدكتور النجار بالشعب الجزائري علاقة حب واحترام.

التعازي القلبية الصادقة لأسر الشهداء لا لرئيس الجمهورية، والتحايا الحارة للشعب الجزائري -لا لأعضاء الحكومة- الذي وقف وقفة رجل واحد في وجه تكاليف الدهر ومفاجأة الأيام. ويبقى الواجب الآن بعد أن تجاوز الشعب وقع الصدمة الأولى أن نكفكف دمعه ونتعهد لأسر الشهداء بالسعي في شؤونها وحاجياتها حتى لا يساورها شك بعد ذلك في أن تضحية ابنها ذهبت هباء منثورا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.