شعار قسم مدونات

أبي.. أكتب لك وعني

blogs أب وابنته

لا أعلم لما تحمّست للكتابة لك هذه المرّة، أظّن أنّه لم يرقْ لي هذا الصمت الذي بيننا، أعلم أنّك قريب منّي تراقبني من مكانك، فلطالما شعرتُ بذلك فلقد كنت أرى ظلّك الطّويل أينما أكون، لذا قرّرت أن أكتب لك للمرّة الأولى، لا أريد أن أبقى صامتة، أردتك أن تسمع بشدّة ما يختلج بداخلي، أم أن ظلّك هذا لا يسمع ولا يشعر بما سأقوله، لم أعد أحتمل أكثر سأكتب لك و أبوح بأشياء كثيرة ظلّت تسكنني، أشياء لم نستطع أن نعيشها ونشعر بها أنا وأنت، ولم نعبّر عنها هذا لأنّك رحلت مبكّراً جداً من هذه الحياة، تاركاً أمور كثيرة تخصّك غير مكتملة، لتكون مجرّد ظل طويل يرافقني في حياتي منذ خمس سنوات ونصف.

أتخيّلك كثيراً في عقلي أرسمك وأجسّدك، جامعةً من أدراج ذاكرتي شريط قصير من الصوّر لعلّ أكثرها من مرضك ويوم وفاتك، وبعض الصوّر من ألبوم العائلة أجمعها بكلّ قصصك وحكاياتك التي سمعتها من أمي وجدّتي، وإخوتي الأكبر منّي، ومن كل من أحبّوك وعرفوك، فكنتُ دائما ما أنتهي إلى أنّك كنتَ رجلاً فريداً، فأشعر بشيء من الفخر يغمرني، رجل شجاع وقوّي تحب كلمة الحق، تكره الظلم، رحيم وشديد عند الضرورة، محبوب واجتماعي استنتجت هذا من كثرة أصدقائك وحب الناس لك، أم أن طبيعة عملك ساعدتك بذلك علمت أنّك كنت بناءً ماهراً وبشهادة الجميع حتى أنك كنت مشهوراً ببراعتك قالت أمي أنك كنت طيّبا ومحباً للخير، فكثيرا ما بنيْت مجاناً لأفراد تعرف يُسر حالهم وأنت في أشدّ الحاجة للأجر لإعالة أطفالك، كما عرفت أنّك كنت حريصاً على صلاتك مترفعا عن سفاسف الأمور، تحبّ العلم وتحثّ عليه حتى ولم تكن متعلّماً.

 

كنت عندما أسمع صديقاتي يتكلمن عن آبائهن تتبلد مشاعري ولكن سرعان ما أجدني لا أريد سماعهن أكثر، أشعر أنني لست مكتملة بدونك وأنا التي لا تحب النقصان

فرحت لأنك كنت والداً جيداً، محباً لأولاده فالأمر الذي تحكيه أمي باعتزاز هو أنّك لم تكن تفرّق بين البنت والولد وأنت الذي رُزقت ذكراً واحدا بين البنات، أختي الأصغر مني أقصد ابنتك تقول مازحة وباللّهجة الشامية أبي كان زلمة زغرد وأبضاي ومعدّل وعينه شبعانة باختصار دائما ما أتخيّلك بطلاً ذا هيبة، وتجتاحني موجة من التأّسف لأني لم أكن طرفاً في قصصك هذه وأنّها لم تمتد إلى عمري هذا فأكون جزءاً منها، فأطبطب نفسي بأنّه يكفي أنّني ثمرة منك، جزء منك وهل هناك أعظم من الأبناء ليتركهم الفرد بعد موته.

هل تعلم أنني أعيش نشوة خاصة في كل مرّة يُطلب فيها منّي ذكر اسمي، فأقوله بابتسامة لا لشيء إلا أنّني أتذكّر أنّك أنت من منحني هذا الاسم، علمت من أمي أنه في غيابك أسموني اسما آخر وعند حضورك ناديتني بحفصة، أحببت اسمي كثيرا بسببك ولطالما أردت أن أشكرك على هذا فأنا متعلقة بإسمي لدرجة أنني أحس أنه خاص بي، لي أنا فقط ولا يليق إلا بي، وكلما تخبرني أمي أنك كنت تحبني بشكل خاص، أفتقدك وسع السماوات والأرض ولكن أفرح في نفس الوقت وأسألها لماذا؟ فترد أنني كنت ثرثارة واحكي لك كل شيء، مع أنّها كانت تقول لي دائما أنّه في صغري كنت بنت هادئة وصامتة إلى حد كبير، يبدو أنني كنت أثرثر معك فقط، أشتاقك كثيرا أبي.

أتمنى لو أستطيع أن أثرثر معك اليوم أيضا، هناك كلام كثير لأخبرك به، هل تعلم أنّني بدأت الصلاة من أول يوم درست فيه كيفية الصلاة، وأنني كنت الأولى في بنات حيّي ومدرستي عندما ارتديت الحجاب، هل تعلم أنني كنت فتاة مجتهدة ومتوفقة في دراستي، وفي كل الأطوار محبوبة من طرف أساتذتي، لطالما أردت أن تفتخر بي وتتباهى بنجاحاتي أمام أصدقائك كما يفعل جميع الآباء، تمنيت أن أريك شهاداتي فأرى الفرحة على وجهك وتخبرني أنك فخور بي، وتشجّعني على تحقيق الأكثر وتحضر جائزة لي وتعدني بأخرى في حال حقّقت الأفضل في المرة القادمة، أردت هذا كثيرا يا أبي ، ولكنّي لم أستسلم لأجلك لأنني كنت أعرف أنك معي وأن الوالدين حتى وإن غادرونا يوماً فهم يبقون معنا يراقبوننا ويتحرّون خطواتنا ويسمعون أخبارنا، آه كم أشتاقك .

كنت عندما أسمع صديقاتي يتكلمن عن آبائهن تتبلد مشاعري ولكن سرعان ما أجدني لا أريد سماعهن أكثر، أشعر أنني لست مكتملة بدونك وأنا التي لا تحب النقصان، وأقول في نفسي قد رحلت مبكرا جدا يا أبي كيف استطعت ذلك؟ ثم أستغفر ربي، أردت أن أعرف كيف يكون شعوري عندما أقوم بتصرف خاطئ فيتملكني الخوف من ردة فعلك، وعندما أخبرك بالأمر تسامحني بقلب الأب شريطة ألا أعود للأمر ثانية، هل تعلم أنه في مراهقتي فكرت في إطالة أظافري ولكني لم أستطع أن أفعل لأني اعتبرت ذلك انحرافا.

 

أردت أن أعيش موقف وانا أشاهد برنامجا على الشاشة وأغير القناة فور دخولك لأنني أعرف أنه لا يروقك، هل كنا لنشاهد معاً محاضرة لشيخ وعندما يتكلّم عن الحب أتصرف انا بشكل غبي وكأنني لا أستمع إليه ولا أعيره انتباها، لطالما أردت أن نتناقش في مواضيع عدة فتستفيد مني في مواضيع أنت تجهلها و آخذ منك الكثير من خلال قصصك وخبرتك في الحياة، أتخيّل أنني أجلس معك أمسية يوم الجمعة أخبرك فيها عن مخطّطاتي لتشاركني رأيك فيها، أحببت أن توقظني لصلاة الفجر وعندما أتكاسل تعود لإيقاظي، أن تذكرني بطاعتي خالقي بذكره وقراءة كتابه، أن أتعلم منك دروس لا يعلّمها إلا الأب فتكون لي منهجا أسلكه في حياتي.

أحس بأنني حُرمت من ممارسة طاعتك وبرّك، أحببت كثيرا أن أنزع حذاءك عند دخولك المنزل متعبا، أن أؤدي لك خدمة طلبتها مني بشكل خاص، أن أسلّمك راتبي الأول، وأشياء أخرى كثيرة، رغبت في ممارسة أبوّتك علي كأن تمنعني من الذهاب لمكان ما أو تؤنبني لتأخري، أن تسأل عني وأنا التي غادرت من ربع ساعة فقط وتغلق الهاتف في وجهي قبل أن أكمل حديثي، لقد تمنيت الكثير الكثير يا أبي، هل تشتاق إليّ؟

ليتني عشت جمال أبوّتك أن أسمع موسيقى ضحكاتك وأن أحفظ صوت وقعِ أقدامك وأعرفك من طريقة طرقك على الباب
ليتني عشت جمال أبوّتك أن أسمع موسيقى ضحكاتك وأن أحفظ صوت وقعِ أقدامك وأعرفك من طريقة طرقك على الباب
 

لن أخبرك عن آلامي و أحزاني وعن ضربات الحياة وخيبات الزمن ووجعها والتي عشتها من طفولتي حتى يومي هذا، لا أريد منك أن تقلق لأجلي فابنتك قوية، حسن أعترف لك أنني لست قوية إلى ذلك الحد لقد احتجت كثيرا أن تكون بجانبي كي أستند عليك، كي أقوى بك أكثر، مرات عدّة كنت بحاجة لعناق طويل معك، أسحب به طاقة حب من عندك أواجه بها مصاعب الحياة وقساوة الأفراد وتقلباتهم، أن تكون درعي الذي أصدّ به هجمات الكارهين لي.

 

كثيرا ما أحسست بأنّني بلا سقف لأنك لا تمسك بيدي، كنت عندما أضعف أسأل الله مرات لما أخذك مني قبل أن أشبع منك، وهل يشبع من الأب؟ هل كنت تسمعني في الليالي التي كنت أشكو إليك فيها؟ هل سمعتني؟ كنت أرتاح كثيرا بعد هذا وكنت أشعر بمددك يصلني، لطالما كنت مصدر أمان لي حتى وأنت غائب، دائما ما أتخيل نفسي أترك قبلة على رأسك فترجعها بجبيني حتى هذه لم أعشها، أن ألمس يديك وأشم رائحتك أن أقول بابا وأسمع نعم يا ابنتي.

أفتقدك الآن كما لم أفتقدك في طفولتي، ربما لأجل هذا أيضا تحمست للبوح لك، ليتني عشت جمال أبوّتك أن أسمع موسيقى ضحكاتك وأن أحفظ صوت وقعِ أقدامك وأعرفك من طريقة طرقك على الباب ومتى تكون غاضباً، وكيف تكون مسروراً، وتفاصيل أخرى عنك تساءلت كثيرا هل كنت لتضع لي لقباً أو اسم دلع تناديني به، فكّرت في هذا أيضا ومتأكدة أنك كنت ستفعل وأكون سعيدة بذلك، لا تستغرب كيف اعرف كل هذا عن الأبوّة هذا لأنني عشتها بشكل ما في داخلي.

قد تكون أمي نصوصاً طويلة قرأتها وعشتها كلّها، ولكنّك يا أبي نص واحد عظيم لم أستطع حتى أن أشرح تفاصيله كونه نص خالِ من روحك وجسدك، أنت الوطن الذي لم أعش معه وفيه فما أنا إلا منك ولا نعيم كاملاّ بعدك، ألم يقولوا البنت لأبوها لم أستطع أن أكون لك لم تكن لدينا فرصة لذلك ولكنّي لم أخبرك أن مسبحتك لا تزال معي وأنّك حتى وإن غبْت عنّي جسداً لم تغِب عن عقلي وقلبي دعاءً، فسلام عليك في قبرك، عليك الرّحمة التي تنام معك طويلاً، وعليك الأمان إلى يوم يُبعثون، طيّب الله ذكرك في سمائه وبين ملائكته كما طيّب ذكرك في أرضه وين خلقه وأسكنك الفردوس الاعلى أشتاقك الآن أكثر.. ابنتك التي تحبك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.