شعار قسم مدونات

"حسن وغفران" رسائل الحب والحياة

مدونات - حسن وغفران

ذات صدفة في منزل والدي عثرت على ورقة مسطرة بحجم ورقة A4 قد أورثها الزمن اصفراراً، فتحتها فإذا بخط أبي مرسوماً بقلم أزرق، رسالة عمرها خمسة وثلاثون عاماً، كُتبت في بغداد وحُملت لعمّان ومرّت بالقدس، وصولاً إلى غزة لتستقر في يد أمي، فيها قطعة من التاريخ مخبأة بعناية ما إن فتحتها حتى عُرضت أمامي نابضة حيّة، بالصوت واللون والرائحة والإحساس، عندما أريتها لأبي قال:" لم يجرّب الحبَ من لم يعِش خفقة القلب مع صوت الورق، وحبسة الأنفاس مع رائحة المظروف، وسيَلان الدمع مع جرة القلم، كان حينها للذاكرة هيبة، وللانتظار لهفة، وللشوق معنى، وللتاريخ صندوق أثمن من الكنز جواهره رسائلُ هَرِمة".

 
لا يذكر أحدنا آخر مرة كتب فيها رسالة ورقية بخط يدوي، حملت معها في مظروفها قطرات من عرق يده، وعلامات سبّبتها الدموع المتساقطة على الحبر، وبعضاً من عطره المفضّل، بل إن الكثيرين لم يسبق لهم أن خاضوا هذه التجربة من قبل وقد فتحوا أعينهم على شاشة صغيرة مستطيلة تجعل العالم بين أيديهم، المسافات فيه بالنسبة لأحدهم لا تتعدّى السنتيمترات التي تفصل تلك الشاشة عن وجهه، والزمن فيه لا يستغرق أكثر من وقت طباعة الحروف.

 
في هذا الزمن يكاد يكون من المضحك أن يتواصل شخصان برسائل من ورق.. فقد انقرضت تلك الرسائل التي شغلت الأدباء سنيناً عاكفين فيها على تاريخ وجمال وسيرة حياة، الرسائل التي تغنّى بها الشعراء وترنّم بها المغنّون وشكّلت واجهة الثقافة والتراث، الرسائل التي لوّعت العشاق وأثْرَت المؤلَّفات وزينت اقتباساتُها الخطب.
   
لكنها رغم ذلك لم تنقرض بالنسبة للجميع، لا زالت أجمل قصص الحب على وجه الأرض تعيش في رسائل، ولا زالت "غفران" تتبادل قلبها مع "حسن" منذ ثماني سنوات هي عمر خِطبتهما. لم يجمع حسن سلامة وغفران الزامل سقفٌ واحد، ولم تتقابل أعينهما وجهاً لوجه، ولم تكن تعرف عنه سوى ما سمعه كل الفلسطينيين في نشرات الأخبار، أو قرأه بعضهم في كتابه الذي ألّفه في سنوات سجنه الأولى.

  

  

لم يجمعهما سوى الأسْر الذي عاشه كل منهما، وودّعته غفران ولا زال حسن يعاني أَشدَّه وأظلمَه! لم يجمعهما سوى الخط الساحلي ذو المائة وعشرين كيلومتراً الممتد من "الخيمة" بالرملة بلدة حسن، إلى قيساريا بحيفا بلدة غفران، لم يجمعهما سوى خيمة اللجوء التي استوطنها أجداد غفران في نابلس، وضمّت عائلة حسن في خان يونس. ثم جمعهما عقد "خِطبة" لو شئنا الحديث عن قراره فسندخل متاهة مذهلة!

 
فقرّرا أن يجتمعا على الورق، أن يلتقيا بين السطور، أن يعيشا زمن الرسائل في عصر ال"واي فاي" ولم تكن رسائلهما تختلف عنهما في تحدّي السجن وكسر القضبان وهزيمة الظلم: تكتب غفران كل أسبوع، فيحتجز السجان الظرف الورقي حانقاً، كيف له أن يسمح -في بقعة الموت الخاصة به- بمرور خطاب مُلغّمٍ بالحياة؟! قبل أن يحرره آخر ويبعثه لحبيب في عزله الانفرادي. ثم تصلها رسالة حسن بعد شهر أو شهرين، وقد نجحَت في حمل روحه وعقله وقلبه خارج الأسوار وخلف الأقفال.
هناك التقيا: في مساحة الصمت بين العين والورقة، في مسافة الفراغ بين الكلمة والأخرى، في اللحظة الفاصلة بين الدمعة والابتسامة، وفي النشوة المقسومة بين الكتابة والقراءة.
 
هناك تبادلا كل شيء: لونيهما وطعاميهما المفضّلين وآراءهما في الفكر والسياسية، أسماء أبنائهما المنتظرِين وآخر الأخبار والأحداث، مشاعرهما ومكنونات نفسيهما وأوراد القرآن والصيام والقيام، تفاصيل حياة لا تحدها حدود ولا تمنعها حواجز، محبوسة كالجميلة النائمة بين ثلاثين إلى ستين صفحة. لو لم يكن للرسائل من ميراث سوى ما احتبسَته من دقات قلبَي حسن وغفران وزفراتهما لكفاها!

 

السلام عليكم يا عشاق هذه البلاد، أعييتم عدوكم حتى إنه لو خَلص إلى طريقة يحبس بها قلوبكم عن النبض لما عدِمتم وسيلة لقهره وهزيمته، يا أشقاء الموت أبناء الحياة.. كيف لا، وبينكم أسرى لم يُعجزهم الاحتلال أن يبعثوا لأحبائهم حتى نُطَفهم! السلام على حسن وغفران.. قيس وليلى فلسطين.. حيث يُكتب الحب.. وينجو الأمل.. وتُولد الحياة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.