شعار قسم مدونات

منْ أنتَ في هذا الزِِحام؟!

blogs تأمل

يسمعُ جرسَ المنبّه! ينتفضُ من سريرهِ إثرَ هذا الوقعْ الروتيني الرتيب الذي دبَّ في أرجاءِ غرفتِه، ومنْ بعدِ ذلك يقومُ متثاقلاً ليغسلَ وجههُ ومتأهباً بعدها للانطلاق إلى عمله! ولا تعجبْ يا أخي من التناقض الذي قرأته هنا، فهو متثاقل ومتأهب في نفس الوقت والساعة! فهو المتثاقل جرّاء هذا الروتين، والمتأهب لأنّ لقمة العيش تعود دائماً لتنسفَ هذا التثاقل.

في كلِّ صباح، يسألْ نفسه ذاتَ السؤال! السؤالُ الذي أصبحَ رقما ً صعباً في حياته، السؤال الذي لا جوابَ عليه! وذلك لأنّه سؤالٌ لنْ يُحلّ إلا بفعلٍ وتغيير! وعلى جانبٍ مُشرق من هذه الحكاية، تراه يواسي نفسه بعبارة قالها بيحوفتش (وحده الذي يسأل سيحصل على الجواب) وهو ما زال يسألْ في كلِّ شروقِ شمس، ومع كلِّ صوتٍ مدوٍّ للمنبّه! ولأجلِ ذلك يرى نفسه آمناً مُطمئنّاً بمنأى عن الخطر المحدّق به إنْ توقّف عن سُؤال نفسه يوماً ما.

عادةً، يتجوّل في أرجاء غرفته، يُفكّرُ بعمقْ! فهو المُتبنّي لعبارة نيتشوية تقول (الأفكار العظيمة تأتيي أثناء المشي)، وفي تجواله هذا، ينظرُ إلى كتبه المتناثرة في المكان، يُحدّق في أسماء المُؤلفين، ويتسائل هل ما قرأً ويقرأْ الآن، ترك أثراً يُعوّل عليه؟ هل من ْمكان لبطولة سقراط وتضحيته في حياته؟ وهل لمنطقْ برتراند رسل المخيف -إلى حدّ ما- قدمْ وساق في عقله؟ أمْ هو مجرّد كتاب وصحائف؟ ويلتفتُ ليرى صورة مالكوم إكس على الحائط! ويتخيّل مدى تفاهته أمام هذا العملاق! ويلمحُ أيضاً كتب بيجوفتش بجانب سريره، ويتمنّى في يومٍ ما أنْ يهرب إلى الحريّة كما فعل بيجوفتش! وأنْ يكون العدوَّ اللدود لكل ما تمثّله السلطة وأذنابها! ويستمرّ في التحديق، لتقعْ عينُه على رواية الأبله لدوستويفسكي، ولطالما كان يُقارن نفسه بالأمير ميشكن بطل هذه الرواية، وهو يعيش حالة الانفصال هذه تقريباً كلَّ يوم دونَ كللٍ أو ملل.

رأُسه يضجُّ بأفكارٍ ما أنزل الله بها من سُلطان! ولا تتعدّى حاجز ما يُفيد، كونها أفكار التُقِطت نتيجة ترف فكري! فهو لا يُؤمن بما قاله برتراند رسل (الحضارة بنت الترف)

هو ذلك الرجل الذي يُدوّن رؤوسَ أقلامِ ما يَقرأ، فبحوزتِه دفتر صغير يُسمّيه (كشكولاً) كما اعتاد أن يُسمّيه في طفولته، دفترٌ مليءٌ بخربشات لنْ يفهمها أحدْ إلّا هو! وينفجر من الضحك عندَ تذكّره أنَّ خربشاتٍ مثل هذه خطّها كارل ماركس، فد جُمعتْ بعدها في كتاب سُمّيَ (رأس المال)! ترى في زاوية أحدْ الصفحات عبارات لألبير كامو، وفي الزاوية المقابلة خواطر لأوسكار وايلد، وفي وسطْ هذه الصفحة سترى مقولات عدّة لعمالقة الأدب الروسي أمثال تولستوي، غوغول، تشيخوف، ودوستويفسكي، وهناك خربشة صغيرة في آخر الصفحة تقول (إنْ كان هذا الحُلم لا يكفي فلي سهرٌ بطوليٌ على بوابة المنفى).

رأُسه يضجُّ بأفكارٍ ما أنزل الله بها من سُلطان! ولا تتعدّى حاجز ما يُفيد، كونها أفكار التُقِطت نتيجة ترف فكري! فهو لا يُؤمن بما قاله برتراند رسل (الحضارة بنت الترف) ودائماً ما يحرص على توظيف كل ما يقرأ بما يُفيد، ولكنْ وفي نفس الوقت لا يستطيع منعَ نفسه من القراءة، وفي كلِّ شيء! فشغفُ القراءة جعلتْ منه مهووساً مُدمناً، وخارج عن السيطرة إنْ كان في مُحيطه كتاب أو ما شابهه! 

يُعنّفُ نفسه دائماً، إنْ تذمّر من ظروف حياتِه، ويتذكّر ما يحصل من مآسي في سوريا! وفي فلسطين أيضاً، أو في أيّ بُقعةٍ يكون الظُلم والاضطهاد هو عنوانها! ويخاطب نفسه قائلاً (أجُننتَ يا هذا؟ تتذمّر من ماذا؟ وفي سوريا الأطفال تموتُ بالجملة)! يُحاول أنْ يكون مُنصفاً في حقِّ نفسه، وأنْ لا يُصبح من هؤلاء الذين لا يأبهون بما يحصل حولهم، تراهُ يتظاهر بالاهتمام وإنْ كان غير مهتمّاً! ويربطْ هذا بقولِ رسولنا الكريم -صلّى الله عليه وسلّم- (إنّ هذا القرآن نزل بحزن، فإذا قرأتموه فابكوا، فإنْ لم تبكوا، تباكوا).

والآن دعونا نعودُ لصميم هذا المقال، وللسؤال الصعب الذي سيطر على حياة هذا الرجل، ألا وهو، من أنتَ في هذا الزحام؟ أأنتَ جلجامش مثلاً؟ وهل تُقاس حياتك بملحمته؟ منْ أنتَ مقارنةً بشابّ أدرك حقيقة الأمرِ كُلَّه وانقضَّ على بضعة يهود خنازير، ليلقى ربّه بعدها؟! هل نذرتَ نفسك للعلمِ مثلاً؟ وهل أنتَ كالإمام النووي الذي سُأل وهو في الأربعين من عمره، لِمَ لمْ تتزوج يا إمام، فقال، لو ذكرتموني لفعلتْ! وهلْ تريد أنْ تبقى ذلك الشابّ التقليدي، الذي أصبح ضحيّة للواقع؟ أمْ تريد أن تتمرّد وتثور على كلِّ شيء كما يحدُث في عقلك؟ وهلْ ما تكتب له معنى من الأساس؟ أمْ أنّك من الجموع الغفيرة التي انتقدها تشارلز بوكوسكي وجرّدها منْ كلِّ شيء بقوله: افعلوا ما يحلو لكمْ، لكنْ، لا تكتبوا شعراً!

سيعي الأنسان تماماً في يومٍ ما، أنَّ إيمانه بنفسه لنْ يكون إلّا بإيمانه بسُلطة عليا مهيمنة على كلَّ شيء، ألا وهي الله جلَّ وعلا
سيعي الأنسان تماماً في يومٍ ما، أنَّ إيمانه بنفسه لنْ يكون إلّا بإيمانه بسُلطة عليا مهيمنة على كلَّ شيء، ألا وهي الله جلَّ وعلا
 

إنّه سؤالٌ جدليّ، ولطالما كانَ كذلك! وجدليّته هذه تجعل منه أساس المعنى في كلِّ تفاصيل حياة هذا الرجل، أذكر أنني سمعتْ خُطبة للدكتور عدنان إبراهيم، يتحدّثْ فيها عنْ دور الإنسان الحقيقي في هذا الكون، وأنّه أكبر وأرقى من كونه موظّفاً مثلاً، أو طبيباً، وقدْ ضربَ مثالاً على موظّف تقاعدَ منْ عمله، ليكتئبْ بعدها اكتئاباً شديداً! وهذا الاكتئاب ناتج عنْ اختيار دور الموظّف فقط في حياته، وبعد انتهاء هذا الدور، سيحسّ الإنسان بانتهاء كلِّ شيء بالمُطلق.

هو سيبقى يسألْ! واختياراته كفيلة بأنْ تكون الإجابة، فليسَ بوسعه الآن إلّا التنظير وكتابة خُطب رنّانة إنْ أراد، شارحاً فيها حالته، وماذا صنعَ لكيانه، وأظنُّ أنَّ التعمّق هذا أفضل بكثير من القعود والرضى بشيءٍ لا يُعرّف شخصيته وبناءه! فعليه أنْ يكون هكذا، وأنْ يُسبب قلقاً لذاته دائماً وأبداً، إلى أنْ يُدركْ تماماً ما حقيقة الإنسان على هذه الأرض، وأنّه ليس مجرّد كائن وُجدَ للاستهلاك والشهوات! وأنَّ هذا الإنسان عليه أنْ يكون حرّاً متمرّداً، والتيقن من هذا الأمر يكون بما ذكرتُ سابقاً من مجريات تعصفْ بهذا الرجل على طولِ الخطّ! وسيعي تماماً في يومٍ ما، أنَّ إيمانه بنفسه لنْ يكون إلّا بإيمانه بسُلطة عليا مهيمنة على كلَّ شيء، ألا وهي الله جلَّ وعلا، وأنَّ حريّته وتمرّده على طغاة هذا الزمان ستخلقُ إنساناً يُنادي بحريّة إزاء الله، ولتنسف السؤال الذي أرّق مضطجعه، ليقفَ شامخاً، وواثقاً من نفسه ويقول (الآن أعلمَ منْ أنا في هذا الزحام).

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.