شعار قسم مدونات

رواية "مأساة أم" تجسيد لمآسي المقهورين في الأرض

BLOGS حزن

أحيانا يجد أحدنا نفسه وهو بصدد قراءة رواية ما، غير مدرك كيف أنها استطاعت أن تجذبه إلى عوالمها الساحرة، فأحيانا يجد نفسه بالغ التأثر حتى لكأنه يشاهد مأساة حقيقية، فلا ينتبه إلا وحالة غريبة تنتابه وربما كانت على وشك أن تجعله يذرف الدموع، بينما لا يكاد يتجاوز بضع صفحات حتى يجد نفسه يبتسم لوحده أو ربما يقهقه، فيلتفت يمينا وشِمالا مخافة أن يراه أحدهم فيتهمه بالجنون، ثم ما يلبث أن يقضم من حجم الرواية بضع صفحات حتى يجد نفسه من جديد يتجهم، ودمه يغلي وكأنه حانق على أحد ما فيريد الانتقام منه والانقضاض عليه. ربما هذه بعض المشاعر ستنتابك ولا بد إن كنت من القراء الذين ما إن ينخرطوا في عالم الكتاب، حتى يفنون عن جميع العوالم الخارجية المحيطة بهم، ليس الأفلام وحدها هي من تجعلنا نعيش ذاك الحماس الذي يفقدنا السيطرة على نفوسنا، فالرواية بدورها تفعل ذلك بل وربما أكثر! لكن هل ذاك الشعور سينتابنا عند قراءتنا لأي رواية؟ لا أعتقد.

بدون شك ليس كل كاتب يوفق إلى أن يمتلك تلك القدرة، على أن يجعل قُرّاءه يقرؤون رواياته بنفس الحماس مهما قصر أو طال حجم الرواية، لكن الكاتب الجيد هو من يستطيع أن يفعل ذلك بدون شك، لا أخال أحدا لم ينتابه ذاك الشعور بالأسى والحزن وهو يقرأ رائعة الأدب العالمي لفيكتور هوجوا البؤساء، أو ذاك الشعور بالقلق والاضطراب وهو يلتهم رائعة دوستويفسكي الجريمة والعقاب، أو كائن لا تحتمل خفته لكونديرا، أتذكر كيف أني كنت شبه مُغَيّب عن العالم الخارجي وأنا أقرأ الجريمة والعقاب، رواية من جزئين أتذكر أني قرأتها في بضعة أيام، لولا انقطاعي لبعض الواجبات، لما تركتها لحظة، أعتقد أن هذا هو سر خلود الكثير من الأعمال الأدبية العالمية، فيها سحر ما يجعل القراء ينجذبون إليها، كما أنها لا تفنى مهما عفا عنها الزمان، أو باعد بيننا وبينها الفراق، فتجدنا نحن إلى عوالمها في كل حين، ومهما قرأنا من روايات جديدة لا تُنسينا عوالمها.

عندما يُطرح عنوان "الأم" في مجال الرواية، لا شك أن الكل سيتبادر إلى ذهنه الرواية الشهيرة لمكسيم غوركي، التي يُجسد من خلالها مأساة العمال إبان قيام الثورة البلشفية، لكن ربما القليل منّا يعرف أن هناك رواية بنفس العنوان، وتقريبا نفس الموضوع، ولم لا نفس الزمان، لكن مكان الأحداث هذه المرة مختلف، كما أن كاتب الرواية هذه المرة امرأة وليس رجلا، فرصدها لمشاعر الأنثى سيكون أقرب ربما.

مآسي الأم كثيرة، كما أن الزمن لن يكون رحيما بها، ستجد نفسك وأنت تمضي في الرواية لا تشعر بمرور الزمان، كما أن أسلوب الكاتبة الشيق سيجعلك تعيش الحدث وكأنك تراه

أعني رواية "مأساة أم" للكاتبة الأمريكية الأصل والصينية الهوى والإلهام، إنها الكاتبة الأمريكية بيرل بيك، والتي تعتبر أول امرأة أمريكية حصلت على جائزة نوبل في الآداب لسنة 1938م، ولدت الكاتبة بأمريكا لكنها لم تُكمل شهرها الخامس بها حتى عاد بها أبواها من جديد إلى الصين، حيث كانا يقومان بمهمة التبشير هناك، ففي الصين سترى بيرل النور، كما أنها ستنشأ وسط مجتمع ثقافته تختلف كليّا عن تلك التي كان يحرص أبواها على أن يُلقناها إياها، تأثرت الكاتبة بالبيئة الصينية، وصارت تلك التنشئة في تلك البيئة بمثابة إلهام لها، حتى إن كل رواياتها تقريبا مستلهمة من البيئة الصينية.

تتخذ الرواية من الريف الصيني مسرح أحداث لها، في كوخ صغير وسط التلال، حيث توجد أسرة قروية صغيرة تمتهن الفلاحة، تتكون الأسرة من "الأم" والأب وثلاث أبناء وأم الأب المرأة الهرمة، حيت نجد الأم تلك المرأة التي تتمتع بالصرامة والتجلد والتضحية في سبيل الأسرة، بينما الأب لا يهمه كل هذا، بل تُعرّفنا الكاتبة بشخصيته بأنه شاب وسيم، لا يحب غير اللباس الجيد، والاعتناء بمظهره، كما أنه يعتد بنفسه بسبب أنه محظوظ في لعبة "القمار"، ربما هذا الغرور سيدفع بالأب إلى أن يتخلى عن مسؤولية الأسرة ويغادر إلى المدينة بدون عودة، عندما تخاصما هو وزوجته حول اقتنائه لقماش اتخذه لباسا وأخذ يزهو به أمام أنظار رجال القرية.

تبدأ مأساة الأم عندما تبدأ تتقي نظرات الناس وأسئلتهم المحرجة عن سبب غياب الزوج، لكنها لن تستسلم لكل هذه النوائب التي تصيبها، بل ستأخذ في اختلاق الأعذار والكذب، كما أنها ستعمد إلى حيلة إرسال رسائل باسمه إلى نفسها من البلدة القريبة، حتى يطمئن أهل القرية إلى صدق ما تخبرهم به من أنه يشتغل بالمدينة، لكن لم تكن هذه هي المشكلة الوحيدة التي ستواجهها، بل ستجد نفسها مضطرة إلى العمل في الحقل لوحدها، يجب أن تبذر البذور، كما أنه يجب عليها القيام بأعباء البيت، وكذاك عندما يحين موسم القطف ستجد نفسها مضطرة إلى أن تجني المحاصيل، وتقوم بدرسها، ومن ثم يأتي وكيل المالك، حيث يحظى بنصيبه.

مآسي الأم كثيرة، كما أن الزمن لن يكون رحيما بها، ستجد نفسك وأنت تمضي في الرواية لا تشعر بمرور الزمان، كما أن أسلوب الكاتبة الشيق سيجعلك تعيش الحدث وكأنك تراه، لكن ما يجعلك تتأثر بالرواية ليس الأسلوب وحسن عرض الأحداث فقط، بل تلك المشاعر الإنسانية التي ستنتابك تجاه هذه المأساة، رغم أننا في الحقيقة نُدرك أن القصة ليست حقيقية، لكنها بكل تأكيد تجسد مآس حقيقية، عاشها الشعب الصيني قبل ثورة ماوتسي، وربما كان سبب ذاك الاضطهاد هو السبب الرئيسي في قيام الثورة.

رواية مأساة أم لبيرل باك (مواقع التواصل)
رواية مأساة أم لبيرل باك (مواقع التواصل)

ولذلك نقرأ في الرواية أن الابن الأصغر، ستُعدمه السلطات بسبب تورطه مع مجموعة اللصوص، التي كانت بدأت تظهر آنذاك وهم ما كانوا يسمون" بالشيوعيين" وذلك بتهمة حيازته لمجموعة من الكتب كانت تُحرّض الناس على الثورة ضد الحاكم، الروائية بدون شك كانت تحاول أن تصور جانبا من المجتمع الصيني المقهور، فنجدها تصور لنا من خلال روايتها هاته، معاناة الفلاح الفقير والذي كان لا يجد ما يسد به رمقه، كما أننا نتعرف على أساليب الاستغلال التي كانت تمارس على الفلاحين من قِبل المُلّاك أصحاب الأرض، لكننا نجد الروائية تعمد إلى وسم مجموعة الشيوعيين باللصوص، والذين كانوا قد بدؤوا يشكلون أولى تجمعاتهم، هل الكاتبة كانت تقوم بذلك بسبب ثقافتها الإمبريالية، ثقافتها الأم مثلا، أم أنها كانت تحكي ذلك على سبيل ما كان مشاعا ومتعارفا عليه بين الناس؟

قد نعرف الإجابة ربما عندما نعلم أنها مُنعت من دخول الصين بعد قيام الثورة الثقافية، بأمر أصدره زعيم الثورة ماوتسي، والذي اعتبرها أنها مناصرة للقيم الإمبريالية، حتى في العام 1972م، حيث كان سيقوم الرئيس الأمريكي نيكسون بزيارته التاريخية إلى الصين بغية إخماد الحرب الباردة، استشارها باعتبار مرجعيتها الوافية بالثقافة الصينية، وقد كانت مستعدة للذهاب معه، لكن الزعيم الصيني كان له رأي آخر حيث ظل متشبثا بقراره، مما أصابها بإحباط شديد لازمها إلى أن توفيت.

فالأم في الرواية في الحقيقة ليست امرأة فقط، بل هي تشير إلى اضطهاد طبقة أو أمة، إنها ترمز إلى كل مضطهد مستغل يناضل ويكافح حتى ينال حقه، وتحاول أن تجعلك تدرك ولو القليل من المآسي التي يعيشها كل يوم أولئك المضطهدين الذين يتعذبون هناك في صمت، في البوادي والقرى حيث لا تصل هناك عدسات الكاميرات، رغم مضي قرن تقريبا على كتابة هذه الرواية إلا أن مآسيها لا زالت تتكرر بين الفينة والأخرى هناك أو هناك، في أطراف هذا الكون الممتدة آفاقه، في اعتقادي الأدب الذي لا يستطيع أن يُجسد لك مآسي الإنسان لا يستحق وسم الأدب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.