شعار قسم مدونات

الحرية عبودية لله

blogs دعاء

تمام الحرية من تمام العبودية لله الواحد الخالق ومقتضى الخليقة هو الشعور بالامتنان والشكر والخضوع للخالق الأجل، الذي تنزه بعظمته عن سمات المخلوقين، هي فطرة ربانية جبل الإنسان عليها، فالمؤمن حينما ينضج يعمل على توسيع مداركه ليفهم معنى الشكر مضمونا ممارسة ومعاملة، وتستحثه هممه لتبني المنهج الرباني الصحيح بقواعده ومسلماته، مدركا تماما بأن قرآننا الكريم أنزل ليضع للناس مبادئ تمس كافة مناحي الحياة، تسنح للإنسان أكثر مما يتصور من الحرية المترسخة في كينونته التي يلتمس عبرها كافة أمور حياته، ولا تفرض عليه التزامات وقيود إلا قدر ما تمليه مصلحة البشر العامة وسعادتهم الحقيقية.

 

لذلك ركز الإسلام على الحرية الفردية كقضية مصيرية في حياة الانسان، لأنه إن كان حرا مكنته حريته من اكتشاف، استقراء واستنطاق، وتنمية الخصائص الإنسانية المتفرد بها عن غيره، عملا على النهوض بمجتمعه وأمته. إذن فالإيمان الحقيقي والتبعية لله يسلخ الإنسان من التعلق بغيره وهنا يحضرني قول الإمام ابن تيمية: "وكل من استكبر عن عبادة الله، لابد وأن يعبد غيره ويذل له".

من صور العبودية لله وحده الثقة في النفس لأن منبعها الثقة في المولى الخالق فهما متلازمتان، خلقك على تلك الشاكلة، وأودع فيك تلك الملكات، والذي بيده مقاليد أمورك جميعها

تتعلق الحرية بأمور بسيطة، لتنسحب تدريجيا إلى الأمور الحياتية الشائكة والأكثر تعقيدا، والتي تخلق تبعات لها تأثير واسع على ذواتنا وحياتنا وعلاقاتنا دون أن نشعر، ابتداء من الناحية التربوية في طفولتنا الأولى، نحن نعبر من خلالها عن حريتنا المطلقة في اختيار واقتناء أشياء، ورفض أخرى، والدفاع عن ممتلكاتنا بشراسة، إلا أن المحيط الذي نعيش فيه يحرمنا من حريتنا بشكل غير مباشر، نستدل على ذلك من قول المربي الشهير(فيرير) عن التربية السلبية التي تقدم في قوالب جاهزة "إن الطفل يحب الحرية، ونحبسه في غرف مغلقة، وهو يحب أن يلعب، فنطلب منه ان يدرس ويجتهد، هو يحاول الكلام ولكننا نكرهه على الصمت، هو يود أن يحاكم الأمور ونحن نود أن يحفظ، يحب أن يبحث عن العلم فنقدمه له ممضوغا، أنه ينزع إلى أن يتحمس للأمور فنبتكر العقاب جزاء له، يؤثر أن يقوم بخدماته عفو الخاطر بمليء حريته فنكرهه على الطاعة السلبية".

 

ينتج عن هذا الأسلوب لدى الطفل مشاعر من الخوف، وفقدان الدافعية للإبداع والابتكار، واستخدام قدراته على أكمل وجه، تمهيدا ليغدو الطريق فيما بعد معبدا بأوهام من ضرورة الاستكانة والتسليم لسلطة البشر، وسيظهر في العالم أفراد مشوهين من فراعنة عشاق التسلط ممن تستبد بهم نوازع الأنا إلى فئة الاتباع الذين يلعقون أحذية أسيادهم ويعلقون قضاء مصالحهم الدنيوية بهم وليس بالخالق، يتم امتهان العبودية لغير الخالق على أنها من متطلبات النفس الإنسانية، فتصبح تارة تساؤلا أكاديميا في ميدان العلم، وتارة أخرى فكرة ميتافيزيقية، أريد لها أن تكون مقننة كمقدمة لتغييبها، فننسى بأنها مطلب وجودي وضرورة حياتية.

من صور العبودية لله وحده الثقة في النفس لأن منبعها الثقة في المولى الخالق فهما متلازمتان، خلقك على تلك الشاكلة، وأودع فيك تلك الملكات، والذي بيده مقاليد أمورك جميعها. ثانيها التحرر من منطق التبعية للناس على أساس مناصبهم أو ألقابهم أو مكانتهم الاجتماعية، لأن مقتضى العدالة الالهية أنهم عبيد لله مثلك ولا يفرق بينك وبينهم شيء في الخلق، إنما تجمع بينكم أسس ومبادئ وقيم تقوم على الاحترام والعدل العبودية لله، فكل ما يجري من أحوال البشر في الله ومع الله وبالله، هذه المنظومة القيمية الإيمانية إن طبقت، هي التي تساهم في إعمار الأرض على الوجه الذي ينبغي، وكل ذلك مقرون بالحرية الفردية، لا إكراه ولا تبعية كلنا سواسية، ولا فرق لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، والمعبود مختلف عن صفاتنا البشرية الدنيوية المشتركة.

نتحرر من التعلق والتمسك بأشياء مادية فتغدو أكبر همنا ومبلغ علمنا، علما أنها وسيلة فحسب، فنسكن أنفسنا دون أن نشعر في كهوف مظلمة من التشيء واللا شيء، فنتوه أنفسنا عن الجوهر والمضمون وفقدان المعنى الحقيقي للحياة، والغاية الحقيقية من وجودنا، فيضعف إيماننا بالله الواحد القادر الرزاق المعطي المانع، الذي يرزق من يشاء من غير حساب.

تتحرر من شعورك بضرورة منحك الناس لقيمتك من تمام العبودية لله لأن قيمتك تنبع من داخلك وفي علاقتك بربك
تتحرر من شعورك بضرورة منحك الناس لقيمتك من تمام العبودية لله لأن قيمتك تنبع من داخلك وفي علاقتك بربك
 

منحنا الله الحرية في إعمال عقولنا حسب ثقافتنا الإيمانية واختياراتنا وقناعاتنا دون التحيز والتعصب أو تقديس وتأليه لصاحب مذهب أو نظرية أو فكر من العلوم الدنيوية، من منطلق أن كل ما فيه حتمي مسلم به لا يحتمل الرفض أو النقاش، والذي يقلص ويضعف تلك الحرية العقلية المتمثلة في التجرد والتفكر والتدبر وتحكيم الأمور، وإرسال البصر نحو العالم، للإبحار بعقولنا في أمواج تتلاطم ما بين شك ويقين، خطأ وصواب. حقيقة ووهم، على أساس ما يوافق فطرتها الربانية قال تعالى في محكم تنزيله: "وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ"، "إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا"، ننظر لتلك النظريات العلمية على أنها تخمينات جيدة، نماذج مبسطة للعالم المعقد تساعدنا على التفتح والإضافة، تنمية معارفنا أكثر، نستقبل لنقبل أو ننقد على القدر الذي يمكننا من الاستفادة والاستنارة، بدلا من اعتبارها حقائق مطلقة، نطمح لتبني رؤية خاصة بنا، تصب روافدها في معرفة للمكون الأعلى دون عصيان أو تمرد أو تجبر من العقل على الخالق .

تتحرر من شعورك بضرورة منحك الناس لقيمتك من تمام العبودية لله لأن قيمتك تنبع من داخلك وفي علاقتك بربك، أن تتحرر وتحطم قيود المعتقدات البالية والعادات والتقاليد التي كبلتك مدة طويلة، منذ أن ورثتها عن أجدادك من منظور أنها مقدسات لا يمكن التخلي عنها، خاصة تلك التقاليد التي قد يلتصق بها نقص وتحريف وتحوير لمقاصد الشريعة، والتي قد نتمادى في جهلنا بها دون العودة والتحقق منها في الكتاب والسنة، وهكذا ندوس على معاني العبودية الحقة.

من تمام العبودية بل في أقدس حالاتها أن تقوم الشعوب منتفضة في وجه الحكومات الظالمة المستبدة مطالبة بحريتها المسلوبة، وهي مدركة تماما لضريبة الثورة على النظم الظالمة الجائرة تضحية في سبيل الله وأملا في أن تختفي سحابة الصواريخ السوداء الراجمة، التي تفتك بأصوات الحرية أينما وجدت، وتعود السماء إلى صفاءها الأول بطيورها المحلقة ليستقي منها الجيل القادم أسمى معاني الحرية والحياة الكريمة والعبودية لله وحده.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.