شعار قسم مدونات

إلى سماسرة العرب وصية جدي أمانة في عنقي

blogs فلسطين

لا زلت أذكر جيداً كيف كان يجتمع أعمامي وأقربائي وأهل الحي كالجسد الواحد في بيتِ جدِّي رحمه الله الشيخ الحاج سلامة العايد في مطلع ثمانينيات القرن الماضي ويتسامرون في "الشق" أي مضافته، ويتجاذبون أطراف الحديث، كانت فلسطين تشغل حيزاً كبيراً في ذاكرته، وكان لا يمرُّ يوماً دون أن يُحدثنا عن فلسطين ومدنها وهضابها وسهولها، كأنه كان يُوصف لنا الجنة وليس فلسطين، كان يحدثنا عن مدينة بئر السبع مسقط رأسه وأزقاتها وعن التراث العثماني فيها وعن مسجدها الكبير الذي بناه العثمانيون وعن السراي، وكان يُحدثنا عن قبائلها وشيوخها وتراثها والإرث القضائي فيها الذي كان يمتاز جدي به وعن مناخها، وكانت حيفا وعكا والناصرة وطبريا وكل مدن فلسطين وقراها محطَّ اهتمامه ولا تغيب عن أنظاره.
 
لطالما حدثنا عن الثوّار الذين كانوا يخضون معارك ضارية مع الإنكليز وأوقعوا فيهم خسائر فادحة رغم قلة الإمكانيات وشح العتاد، جدّي رحمه الله كان ثوريّاً ومقاوماً لكل أشكال الاحتلال، وكان يقول لنا إذا خُيرت بين الوطن والروح، إياك أن تختار روحك على الوطن، فالوطن أغلى من الروح ولا يعادله شيء، ورغم أنه كان ثورياً ومقاوماً لم يمنعه ذلك من الانخراط في المجتمع، ولا أذكر أنه كان يرد أحداً لجأ إليه، بل كان رحمه الله يخسر من وقته وجهده وماله ليمشي في قضاء حوائج الناس، وكان أسعد ما يكون إذا أصلح بين المتخاصمين إذا حصل شجارٌ بينهم بغض النظر عن أطياف المتخاصمين ومعتقداتهم، ولم أذكر أنه عبس في وجه طفلٍ صغير أو نهره، وكان دائماً بشوش الوجه رغم ما في داخله من أوجاع وهموم جراء فقدانه لوطنه واحتلاله لفلسطين.
  

اليوم نقول لأبنائنا بأن لنا وطناً محتلاً وسنحرّره ولو بعد حينٍ من براثن الصهاينة وسماسرة العرب، وليعلم صهاينة العرب وسماسرتهم قبل الصهاينة ذاتهم بأن فلسطين لا تقبل التقسيم ولا القسمة على أكثر من واحد 

لقد كان جدّي رحمه الله أُمِّياً ومع ذلك استطاع أن يغرس في أبنائه والمجتمع الذي يُحيط به القيم الثورية التي نشأ عليها، وأذكر أنه لم يمض يوماً دون أن يلهج لسانه بذكر فلسطين كل فلسطين، كان جدِّي ثورياً ومقاوماً بالسلاح أيام شبابه ضد الانتداب البريطاني، وبقي مقاوماً وثورياً بلسانه حتّى فاضت روحه إلى باريها، لم تغب فلسطين عن ذاكرته رغم بلوغه من الكبر عتياً، وأمثال جدّي رحمه الله كانوا في فلسطين آنذاك كثيرون ولا حصر لهم، وكانوا جنوداً مجندة للدفاع وطنهم فلسطين، وكانوا أيضاً لا يتوانون عن مساعدة المحتاجين، وإصلاح ذات البين، ورغم شُح المواردّ وقلة الأموال التي تجعلهم يتحركون بشكلٍ أوسع في أوساط المجتمع إلا أن نفوسهم كانت توّاقة لفعل الخير وبث روح الحماس في ذوات الناس، وكانت تفوح منها رائحة المسك والعنبر، وكانت أرواحهم تعانق السماء في هممها، مات جدّي في منتصف ثمانينيات القرن الماضي عن عمرٍ تجاوز المئة بعقدٍ، وأظن أنه لم يبق اليوم أحدٌ من أجيال جدّي على قيد الحياة.
 
لقد مات جدي وكان يقول لنا آنذاك أن الطيبون ماتوا، وماذا عسانا أن نقول نحن اليوم؟ كان يرى في آخر حياته بعض السلوكيات المقيتة فيظن أن القيامة قد قامت، وكان يـُحذِّرنا من عواقب تفكك المجتمع وخطورتها على مصير القضية الفلسطينية، ولطالما أوصانا بحسن الجوار وعدم التخاصم مع الأقرباء والأصدقاء، رحل جدي وأجياله عن الحياة الدنيا ولم يعرفوا شكل التلفاز المُلون جيداً، ولم يسمعوا بالإنترنت مطلقاً، ولم يعرفوا مواقع التواصل الاجتماعي إطلاقاً، كان ثوريّاً على أرض الواقع ، ولم يكن ثورياً على منصات التواصل الاجتماعي، لقد حدثنا جدّي عن النكبة، وبعض تفاصيلها وخباياها، وقد كان عمره يتجاوز الستين عاماً آنذاك، وكيف قاموا الصهاينة والإنكليز بما توفر لديهم من عتاد آنذاك؟ عاش جدّي رحمه الله مأساة النكبة، وعانى من تبعاتها، وكلما كان يحدثنا عن النكبة كانت دموعه تذرف حزناً على ضياع فلسطين، وكان رحمه الله يحاول إخفاء دموعه حتّى لا نرى حجم الانكسار في عينيه، وبعد النكبة حدثنا كيف كان الناس يتقاسمون بينهم لُقيمات الخبز وشربة الماء، غادر جدِّي ومعه الكثيرون أرضهم عنوة عنهم، وذهبوا إلى الأردن المضياف، لقد حدثنا جدّي أنه رغم مرارة النكبة وقساوتها وآلآمها إلا أنه لم يشعر يوماً أبداً بأنه كان لاجئاً عندما جاء إلى الأردن.
   undefined

 

وكان يقول لنا من الأردن سيندحر الاحتلال بالرغم من كونه أُمِّياً إلا أنه كان صاحب نظرة ثاقبة، ولديه وعيٌّ عميق بتفسير مجريات الأحداث، وكان رحمه الله حتى موته على أمل العودة لفلسطين كل فلسطين، ولا زالت وصية جدي معلقة في أذهاننا ومنقوشة في قلوبنا نحن الأحفاد وسنحكيها لآبنائنا وأحفادنا، ولطالما أوصانا بأن هناك وطناً يحتاج إلى رجال لا تقبل بالذل والهوان، وأن هذا الوطن يجب ألا تُشغلكم وتلهيكم عنه ظروف الحياة وملهياتها، ولا بدّ أن تهبوا أرواحكم للوطن لاسترداده من الغاصبين والمحتلين له، وكنّا كلما اجتعمنا حوله ليحدثنا كانت عيونه صوب فلسطين وبصوته الشاحب النحيل كان يوصينا بألا نقبل بديلاً عن فلسطين كل فلسطين.
 
واليوم نقول لأبنائنا بأن لنا وطناً محتلاً وسنحرّره ولو بعد حينٍ من براثن الصهاينة وسماسرة العرب، وليعلم صهاينة العرب وسماسرتهم قبل الصهاينة ذاتهم بأن فلسطين لا تقبل التقسيم ولا القسمة على أكثر من واحد، وكما أوصى جدي رحمه الله أبناءه وأحفاده بألا وطن لكم سوى فلسطين، وأن دافعوا عنها حتى تحرير آخر شبرٍ فيها، فإن هناك الكثيرون من الأجداد من أوصوا أبناءهم وأحفادهم بهذه الوصية، وعلى سماسرة العرب أن يعوا جيداً أن فلسطين خط أحمر وأن الأحفاد لن ينطلي عليهم ما انطلى على أجدادهم من كذب الزعامات العربية آنذاك، وعهداً وقسماً يا أجدادنا بأنه ما دام في أروحنا روح لن ننسى وصيتكم، وسنهب أرواحنا لأجل الله عزّ وجل دفاعاً عن فلسطين، وأبناء الأمة الشرفاء والأحرار هم معنا في تحرير أرضنا، فالقضية ليست ملكاً لنا وحدنا بل ملك الأمة كلها، ولتعلم الأنظمة المهترئة أن قربها من فلسطين يعني حرقها واقتراب حتفها، فلتغامر بذلك لترى حتفها، فإن فلسطين ليست ألعوبة بين أيديكم ولا ملكاً لكم لتهبوها تقرباً للصهاينة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.