شعار قسم مدونات

الأُجرة وطن!

مدونات - الغوطة

لعله من قَدَر ثوراتنا في العالم العربي، أو الثورات عموماً أن تنطلق كلمات تسير في الناس، فتذهب أمثالاً أو أيقونات تبقى لا تنمحي وإن مضت الثورات وأهلها. فقد طوت الأحداث الثورة التونسية ومضت في البلاد أحداث وأحداث، لكن أحداً لا ينسى كلمة قالها رجل بعفوية: هَرِمْنَا!! وقريباً منها صرخات: من أنتم؟! جرذان! ليقضي في جحر تخرج منه الجرذان ويموت تحت أقدام (أنتم)! ذاك في غرب عالمنا العربي، وفيه شرقه إلى الجنوب فات القطارُ حاكماً أرعدَ وأزبدَ ووعدَ وتوعّدَ، وهو القائل لخصومه حينما ثاروا على ظلمه: فاتكم القطار!

 

فماذا في ثورة الكرامة في سوريا؟ هل فيها كلمات راجت وطارت في الناس أمثالاً؟ لعل في السؤال خطأ؛ وصوابه: كم فيها من كلمات قيلت وغدت علَماً على ثورتنا؟ وهل تفي معاجم من نحو ما أُلّف قديماً وحديثاً في الأمثال والأقوال السائرة حقَّها؟ لست أبالغ أنه تصلح دراسة أكاديمية في جامعة مرموقة لدراسة ما أطلقه السوريون بعفوية من كلمات على امتداد ثورتهم، ولعل الله يقيّض لها بعد حين مَن ينهض بها. فالقاموس يضيق بها: هي لله هي لله! أنا إنسان ماني حيوان! ما لنا غيرك يا الله! الموت ولا المذلة! وغيرها كثير. لكن آخرها كلمة قِيلت في زحمة مآسي الغوطة، فمرّت مع الجراح ولم تأخذ حقّّها، لكنها ثمينة بقَدْر الثمن المذكور فيها. فقد رُوي بين مئات القصص عن المهجَّرين من أرضهم في الغوطة الشرقية المباركة: أن فتىً قال لأبيه وقد وقف الباص الأخضر ليركبوا: هل سندفع لهذا الباص أجرة يا أبي أم هو بالمجّان؟ فأجابه الأب الحكيم: أجرته أكبر أجرة ندفعها في حياتنا؛ أجرة هذا الباص وطن!!

 

الوطن أغلى على المرء من روحه، وعليه يكون أشد غَيرةً منه على أهله وحرمه، له يبذل دمَه وهو ضاحك، أليس من هَدي نبيّنا: "ومن قُتل دون عِرضه فهو شهيد"!

لا يقلّ قائلها حكمةً عمّن كُتبت كلماتهم فعلّقوها في الجاهلية لنفاستها على جدران الكعبة، ولا عن تلك التي كانت تروق لبعض الحكّام فيكتبونها بماء الذهب، فهذه الكلمة حُفرت في قلوب الناس بماء العين، فمن يفهم عن العيون لغتها؟! لا يعرف الشوق إلا مَن يكابده ولا الصبابة إلا مَن يعانيها. نعم؛ أجرة الباص المشؤوم وطن، وطنٌ فيه وُلدنا وبين جنباته لعبنا وتربّينا، وطنٌ يضمّ ترابه أغلى ما نملك: أرحامنا وأحبابنا وذكرياتنا، لكن لستَ أنتَ من دفعها أيها العمّ المسكين ولا ابنك، بل دفعها من دفعكم لركوب الباصات الخضراء، دفعها مَن آثَرَ المناصب والمكاسب فهانَ عليه بيع الوطن، مع أن لطفي صاح كثيراً: "خذوا المناصب والمكاسب لكنْ خلّولي الوطن"، فأخذوا المناصب والمكاسب وتخلّوا عن الوطن للمغتصبين.

 

ألم يقل كبارنا قديماً: "ما لا تتعب فيه الأيادي لا تبكي عليه العيون"؛ فلو أنهم انتموا إلى الوطن وتعبوا في بنائه لَمَا هان عليهم وما باعوه. أمّا أنت أيها العمّ الطيب فلم تدفع الفاتورة من (الوطن)، بل دفعتها من دمك ومالك، من صحتك وسعادتك، وما دمت كذلك فالله لن يضيّعك، ألم يغادر نبيّنا الكريم مكة وهو يخاطبها: "أَمَا وَاللَّهِ لأَخْرُجُ مِنْكِ ، وَإِنِّي لأَعْلَمُ أَنَّكِ أَحَبُّ بِلادِ اللَّهِ إِلَيَّ وَأَكْرَمُهُ عَلَى اللَّهِ، وَلَوْلا أَنَّ أَهْلَكِ أَخْرَجُونِي مَا خَرَجْتُ"، فعاد إليها بعد حينٍ فاتحاً، لينزل عند قدمَيه من طردوه بالأمس منها مستشفعين. فلنحلم بالوطن، فما دمنا نعيشه في أحلامنا، ونعمل في حياتنا لنعود فإننا سنعود: غداً سنعود والأجيال تصغي إلى وقع الخطى عند الإياب. المهم ألا ننسى الوطن، ألا ننسى أن (أجرة الوطن) يدفعها من دفعونا لتركه بأشباحنا، وأرواحنا ما زالت معلقة فيه، فليدفعوا الأجرة وليغادروا الوطن ما دام الوطن هيناً عليهم لدرجة أن يبيحوه لكل المجرمين.

  undefined

  

الوطن أغلى على المرء من روحه، وعليه يكون أشد غَيرةً منه على أهله وحرمه، له يبذل دمَه وهو ضاحك، أليس من هَدي نبيّنا: "ومن قُتل دون عِرضه فهو شهيد"!! فمَن مات منّا في وجه المجرمين مات لأنه يعرف حقَّ الوطن في وجه الغاصبين، مات لأن نفسَه أهونُ عليه من فقدان الوطن، لأنه موقنٌ أنه لن يحيا دون الوطن؛ فالوطن ماؤه وهو السمك، ولا حياة للسمك خارج الوطن، ومتى خرج من الماء بات على المائدة ليُؤكل.

  

نعم يُؤكل؛ تأكله الهموم، يأكله الحنين، يأكله التجّار بالبشر والآلام قبل تجّار السلع والأشياء، يأكله الحنين للوطن. فإن كنّا نريد الوطن فلننظر مليّاً في طريق عودة النبي الكريم إلى الوطن إلى مكة؛ كيف بدأ بالبناء؟ هل كان أول عمله شراء السلاح وبناء الحصون؟ لا.. فالغوطة وحلب والقصير قبلها كلها لم تسقط لقلة السلاح، فسقط السلاح وحاملوه ومن يحتمي بهم؛ فأول البناء الذي يلزمنا بناء النفوس، بناء المؤمنين بالله الذين يستأهلون النصر في موعوده "وكان حقاً علينا نصر المؤمنين"، بناء المؤمنين بالوطن المستأهلين لبنائه وقيادته. فأولئك لا يكون بينهم (ضفدع) ولا (أبو بحر) ولا (رحمون) لأن الوسط الطاهر المعقَّم تماماً لا يكون فيه للحشرات والجراثيم نصيب!

 
فإن تمّ لنا بناء كهذا، بناء للناس بالقرآن بالعلم بحبّ الوطن هان أمر السلاح وتهاوت أمامنا الحصون وخلعنا (الباستيل)، ورمينا فيه عتاة المجرمين ممن باعوا الوطن؛ ليعلموا أن الدفع يكون من المناصب والمكاسب وليسلم الوطن!!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.