شعار قسم مدونات

أخاف يا أمي أن أكبر!

blogs - mother
لا شيء يخيفني يا أمي أكثر من أني أكبر، لم أعد أرى تلك الطفلة إلا حينما أرتمي في حضنك وتغمرينني ،أتخيل الحضن الأول الذي احتواني، أتخيل الشهقة الأولى، النظرة الأولى لهذا الكون عندما أبصرتاه عيناي لأول مرة. والآن تغيرت يا أمي كثيرا. 

الجشع والطمع، الاحتيال والقسوة والشر، وهل لطفل إلا أن يكون بريئا محبا ضاحكا مبتسما! هذا ما يخيفني لا أريد أن أكبر لأكون يوما ما سببا في حرب أو جريمة، لا أريد أن أكبر لأصبح قاتلا للبراءة أو أعثو في الأرض فسادا، لا أريد أن أكبر لأجبر يوما على ارتداء أقنعة لا تناسبني أو تنمق كلمات لا أحبها، أو أرغم على طلاء وجهي بالمساحيق، أو مواكبة موضة ليست لنا، سأنفجر يا أمي إن أسكتوني فقط لأني على حق لأن لي قضية أو مبدأ، سيدخلونني السجون ويغلقون فمي بالإسمنت لكي أمنع من الحديث للأبد، ويطوقون يدي ليمنعوني من الكتابة، لست ممن يحب أن يصفق للباطل فقط لأنه الأقوى، أنحن في غابة يأكل فيها الذئب ليلى وسلمى ويحيى؟! أظن كذلك. 

لا أريد أن أكبر فأضطر لمشاهدة الأخبار الوطنية والعالمية بحجة أن ذلك ضروري، إرهاب الطرقات، جرائم، اعتصامات، حروب.. لن أوجع قلوبكم بأكثر من ذلك، لكن تلك الطفلة لم تكن تسمع إلا بأنشودة شرطي المرور ذاك الذي يحفظ أمن الطريق، و حفظت جيدا قول الشاعر قم للمعلم وفه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا، والعم بيتاليس وريمي كم تمنيت وقتها أن ألتقيهما، لا أريد أن أكبر لأني لم أعد أحصل على علبة الأقلام ودفتر مذكرات كهدايا لأني تفوقت.

أما الآن لا يهمني بتاتا سوى أن أنتقل بالسنوات لكي لا أبقى حبيسة الجامعة! قالوا لي أنك عندما تكبرين ستصبحين ذا مسؤوليات أكبر قد تنسيك فرحة العيد، لن تلبسي ثوبك الوردي ولن تضعي الضفائر ودبابيس الفراشات، ولا يهمك إن خرجت لاستقبال العيد، فقط قومي باكرا وجهزي البيت ونظفي واصنعي الحلوى واستقبلي الضيوف. لا أريد أن أكبر فأجبر على الابتعاد عن أناس أحبهم وأماكن ألفتها صديقات الطفولة جيراننا، بيتنا الصغير الجبلي، مدرستي الحبيبة، الكُتّاب، سيقتلني الحنين يوما. 

 

الآن وقد كبرت يا أمي وهو أمر لابد منه، لي طاقة أعيش بها أيامي كما أريدها ووفق ما جاء به ديني، لن أكون إمعة إن أساؤوا أسأت، وإن رموا أرواحهم في وادي رميت روحي
وأنا طفلة لم أكن أعاني هذه الأمراض، كداء القلق الذي يهتك بنا جميعا، لا أنتظر رسائل ولا اتصال، أركض للباب أفتحه لأبي أتشوق لكيس الحلوى، أبحر في عالم القراءة وأستمتع بمجلات العربي الصغير وقصص ألف ليلة وليلة، ومضت ألف ليلة وليلة ولم أعد طفلة. 

لم تعد تسعدني أبسط الأشياء، أكلما كبرنا قلت قناعاتنا؟ قل صبرنا، وباتت تقلقنا أتفه الأمور، وأثقل قلوبنا الحزن، فمرحبا بعدها بضغط الدم والسكري، وكل الأمراض الأخرى التي تسللت إلينا من حيث لا ندري. تكون طفلا فتعيش كل يوم ليومه، تسعدك قطعة شوكولا، ويزعجك انتهاء فلم الكرتون، تشعر بالوحدة فترسم زهرة ترسم بيتا وعائلة، واللعب خارجا مكافأة كبيرة لك. يقول باولو كويلو يستطيع الأطفال تعليم الكبار ثلاثة أمور: السعادة من دون سبب، والانشغال دوما، وطلب أي شيء يريده. 

وأنا طفلة لم تثقل كاهلي ذنوب أو أخطاء، كنت نقية جدا وصافية كحبات الثلج بل وأنقى. الآن أصلي وأصوم وأتصدق وأخلص لله ومع ذلك خائفة أن يسوقني معهم للنار التي وقودها الناس والحجارة، كنت أتحدث عن الجنة كثيرا كأنها ملاذي الوحيد، واليوم يجب أن أذكر عقلي بالنار لكي يصحو من غفلاته. الآن وقد كبرت يا أمي وهو أمر لابد منه، لي طاقة أعيش بها أيامي كما أريدها ووفق ما جاء به ديني، لن أكون إمعة إن أساؤوا أسأت، وإن رموا أرواحهم في وادي رميت روحي، ولن أكون ضعيفة لأسقط مع هبة ريح أو تيار غربي يدفعني للتحرر من نفسي لأكون ما يرغبون به، سأكون نفسي فقط. بيدي أن أحفظ جسدي بالحجاب، بيدي أن أحارب نفسي فجهاد النفس أعظم، والله خاطبنا بقوله: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)

فطوبى لمن كانت الجنة سكناه الأبدي. بيدي أن أغير ما بنفسي ليتغير ما حولي، فالله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.بيدي أن أحتفظ بشيء من تلك الطفلة بداخلي، أخرجها كل ما احتجت إليها. كُن طفلاً مرة أُخرى لأنه فقط مع الطفولة تستطيع أن تكتسب عفويتك وستصبح جزءًا من فيضان الطبيعة من جديد. أوشو عبقري ذاك الذي يحتفظ بروح الطفولة إلى سن الشيخوخة، سيحتفظ بكل ما هو جميل. سيعيش حياته كأنه لم يكبر يوما. لا داعي وقتها للخوف من أن أكبر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.