شعار قسم مدونات

هولاكو.. يَقتحِمُ مَنامِي

مدونات - هولاكو

فِي المَوعِدِ ذاتِهِ كلَّ عام، اقتَحَمَ هولاكو مَنامِي في الذكرى السَّنَويَّةِ لِفاجِعَةِ إحراقِهِ مَكتَبَةَ بَغداد، وَإلقائِهِ نادرَ المَخطوطاتِ إضافة إلى كُتُبِ العِلمِ وَالفِكْرِ والتَّارِيخِ الإسْلاميِّ فِي نَهرِ دِجلَة، حتَّى اسودَّتْ مِياهُ النَّهرِ حِدَاداً عَلى عِلمٍ وَفِكرٍ أنهضَ أمَّة، كنتُ أَقِفُ أَمامَهُ عَلى ضِفَّةِ دِجلَة، تقدَّمَ تجاهِي عَلى حِصَانه، اسْتَلَّ سَيفَه يُلَوِّحُ بِه أمامَ وَجهِي، يَنظُرُ إليَّ بِعَينيهِ المَغوليتين الصَّغيرتين الضَّيقتَين، كُنتُ أُسْنِدُ على ذِراعِي ثلاثَةَ كُتُبٍ صَدَرَت حَدِيثاً أَجهَلُ مُحتَواها، ولا أَعرِفُ حَتَّى كَيفَ وَصَلَت إلى ذِراعِي، هذهِ سُنَنُ الأحلامِ وَقوانِينُها، عَشوائيةٌ دونَ مَنطِق، ترَجَّلَ عنْ حِصَانِه، تَقَدَّمَ نَحْوي خَطْوَتين، خَطَفَ الكُتُبَ عن ذِراعي فَجأَةً ، أَنزلَ سَيفَه وَتَصَفَّحَ الكِتابَ الأوَّلَ مُسْتفسِراً وهو يَرمُقُ ما جاءَ فِيه بِنَظرةِ دَهشَة: "المُظَفَّر سَيف الدين قُطُز.. الظاهر بِيبَرس "نظرت إليه مستفهما قبل أن يتابع: "ما أحوالُهُما بعد هَزيمَتي فِي عَينِ جَالوت؟".

 
كما تَعلَم، قُتِل السُّلطانُ قُطُز بَعد هَزيمَتِكَ بِخمسينَ يَوما تقريباً، فِي طَريق عَودَتِه مِن دِمَشق إلى القَاهِرة، أمّا الظاهرُ بيبرس فَحَلَّ مَكانَهُ سُلطاناً، عاشَ بعدَها لِمُدَّةِ سَبعَةَ عشرَ عاماً قَبل وَفاتِه، حَقَّقَ فِيهَا الكثيرَ مِن النَّصرِ وَالعِزَّةِ والتَّمكينِ والعَدالةِ لأمَّةِ الإسلام، تَعاقبت القُرونُ والأزمان، قرونٌ كُنّا فِيها كَأسلافِنَا خيرَ أُمَّة أُخرِجَت للناسِ وَأنتَ على ما كُنّا خَيرُ شاهِد، تَشَتَّتنا بَعدَها وَتَفرَّقنا، وَحَلَّ مَحَلَّهُما فِي الوَقتِ الحاضِر المُعَاصِرِ أَكثَرُ مِن سِتِّينَ شَخصاً لأكثرَ مِن سِتينَ دَولةً مُتفرِّقَةً فِي بِقاعِ الأرضِ بَعدَ أَنْ كُنَّا دَولةً واحِدة، كُلٌّ مِنهُم يَدَّعِي أَنَّهُ يُشبِهُهُما وَما يُشبِهُهُما أَحَدٌ مِنهُم فِي شَيء!!

 

بَرَزَ في نِهَايةِ المَطافِ مُفَكِّرونَ مُتَأَسْلِمُون نَسَفُوا أصولَ الدينِ وَأحكامَه.. وَخاضُوا فِي الأمورِ المَعلومَةِ مِن الدينِ بِالضَّرورَةِ فَشَكَّكوا وَطَعَنُوا فيها.. بِلَيِّ أَعناقِ الأدلةِ القُرآنيةِ وَالنَّبويةِ الثابتة وَتفسيرِها وتأويِلها عَلى هَواهُم..

واصَلَ يَسأل:" حَدِّثنِي عَن الكُتُبِ فِي زَمانِكُم.. عَن الكُتَّابِ وَالمُفَكِّرِين ".. هَمَمْتُ بِإجابَتِه قبلَ أنْ يُقاطِعَني في اللحظةِ الأخيرة: "اصمُتْ.. لا داعي لِلإجابَة.. الكِتابُ أمامِي يُجيب! يبدو أنَّكُم تعانون أنيميا حَادَّةً فِي كُتُبِ الفِكر الإسلاميِّ النَّقيِّ الصَّافي المُتداوَلَةِ بَين العامَّة، ما هذا الذي أراه أمامي؟ أهو فِكرٌ إسلاميٌّ أم فِكرٌ فَلسفِي هَجِين! كِتابٌ يُفتَرَضُ أنَّهُ كِتابُ فِكرٍ إسلاميٍّ صافٍ في الأصُولِ والثوابت، مُتَرجَمٌ مِنْ مَؤلَّفِ مُفَكِّرٍ غربيّ عِلمانِيّ يَدعو لِحَصرِ الدينِ في الصَّلاةِ والصَّيام..

 

والكِتابُ الثانِي الذي أرى كاتِبُهُ مُفَكِّرٌ غيرُ مُسلِمٍ أصلاً، لا يَبرَحُ يَنتَقِدُ الإسلامَ أينما حَلَّ وارتَحَل، وَيُفتَرَضُ أنَّهُ يَتَحَدَّثُ بِإنصافٍ هنا عَن ثوابِتِ وأُصولِ دِيانَةٍ لا يَعتَقِدُ ولا يُؤمِنُ بِها! وأنتُم.. تَأخُذونَ فَلسَفَتَهُ مُنبَهِرِينَ بِثِقَةٍ ساذَجَة! " لَوَّحَ بالكِتابَينِ أمامَ وَجهِي ساخِراً: "هه!! أتأخُذونَ فِكرَكُم وَثَوابِتَكُم وَأُصولَ دِينِكُم مِن هؤلاء! ".. أَطرَقْتُ خَجِلاً.. اسْتَدرَك فِيما بَعْد مُتَسائِلاً: "لكِنْ.. أينَ المُفَكِّرونَ المُسلِمونَ الحَقيقيون! أولئكَ الذينَ ألقيتُ بِهستِيريَّةٍ أمثالَ مُؤَلَّفاتِهِم وَمَخطُوطاتِهِم فِي دِجلَة!! أولئكَ الذينَ قَضَّتْ كَلِماتُهُم مَضجَعِي، وَطَوَّقَتْ كُتُبُهم عُنُقِي، وكانَت صَفَحاتُهم سُيوفاً حَادَّةً تُفزِعُنِي وَتُرهِبُنِي؟! قادَتنِي فِي لَحظَةٍ ما إلى الخَوفِ المَجنُون، فَدَمَّرتُ وَحَرقتُ بِسَبَبِهم مَكتبَةَ بَغداد، وَألقيتُ ما تبقى مِنها لِتموتَ بِمحتَواها غَرَقَاً فِي دِجلَة.. أينَ هُم صُنّاعُ الفِكرِ الإسلامِيِّ الحَقِّ النَّقِيّ؟"!

 

أجبتُهُ: "بَعضُهُم مِمَّن ثَبَتَ عَلى فِكرِهِ التَقَمَتْهُ السُّجون، بَعضُهم تُمنَعُ مُؤلَّفاتُهُم مِن النَّشرِ والتَّداوُل، يُحارَبون، يُردَعُون ويُنَكَّلُ بهم، ثُلَّةٌ هَجَرَهم وَمُؤلَّفاتَهُم بعضُ الشبابِ مَسموم الِفكرِ بَعدَ أنْ لُوِّثَت أدْمِغَتُهُم بِالفِكر الإسْلامِيِّ العِلمانِيّ الفَلسَفِيّ المُعاصِر، فاعتَبَرُوهُم وكُتُبَهُم مُجَرَّدَ مُتَشَدِّدينَ مُتَمَسِّكينَ بِتقالِيد إسلامِيَّةٍ قَدِيمَةٍ – مِن وُجهَةِ نَظَرِهم -، بَعضُهُم أَصابَته عدوى الفِكرِ الإسلامي المُعاصِرِ الهَجِين، أمامَ قارِئ أَبهَرهُ البَريقُ المُزَيَّفُ لأسماءٍ لا تَفقهُ في الِفكر الإسلاميِّ شَيئا!! أسماءٍ وَصلَ الحالُ بهم إلى التَّطاولِ عَلى أُصولِ وثوابتِ الدينِ وَدَعائِمِهِ وَأَساسَاتِه..

 

حَتَّى بَرَزَ في نِهَايةِ المَطافِ مُفَكِّرونَ مُتَأَسْلِمُون نَسَفُوا أصولَ الدينِ وَأحكامَه.. وَخاضُوا فِي الأمورِ المَعلومَةِ مِن الدينِ بِالضَّرورَةِ فَشَكَّكوا وَطَعَنُوا فيها.. بِلَيِّ أَعناقِ الأدلةِ القُرآنيةِ وَالنَّبويةِ الثابتة وَتفسيرِها وتأويِلها عَلى هَواهُم.. دون أن تَجِدُ فِي المُقابِلِ مِنَ القارِئ السّاذَجِ سِوى الانبهارِ بِكُلِّ فَلسَفَةٍ جَديدَةٍ تَلوحُ أمامَه فَيُصَفّقُ لَها بِبَلاهَةٍ! فتقودُه فِي النهايةِ إلى دَواماتِ الشُّكوكِ والظنونِ والريبة التي لا تُضمَنُ عُقباهَا!! إنَّها لَعنةُ حرفِ الدالِ هُولاكو.. إذا تَقَدَّمَ على اسمٍ أباحَ لِصاحِبِه أنْ يَتَحَدَّثَ فيما لا يَفقَه! وَمَنَحَ مالِكَهُ التَّصريحَ والإذنَ بِالفَلسَفَةِ والهَرطَقَةِ عَلى هَواه! أراكَ فَرِحتَ كثيراً هولاكو! لا تَفرَح.. فهناكَ منْ يتصدى لأمثال هؤلاء ويَدحَضُ هَرطقاتِهِم وَيُبطِلُ شُبُهاتِهِم ويرد أباطيلَهُم وَفِكرَهُم الأعوجَ عليهم.. الخيرُ باقٍ فينا إلى يوم الدينِ يا عدوَّ الدين".

 

عَرَفَ هولاكو ما آلت إليهِ بِلادُ الإسلامِ مِن هَوانٍ بَعدَ قُوَّة، وَمِن ذِلَّةٍ بَعدَ عِزَّة، وَمِن خَرَابٍ بَعد صَلاحٍ وَعَمار، ومِن هَزِيمَةٍ بَعد تَمكيٍنٍ وَنَصر، ومِنْ تَبَعِيَّةٍ بَعْدَ قِيادَة.. ومِن جَهْلٍ بَعد عِلمٍ وَمَعرِفَةٍ وَتَقَدُّمٍ

فَتَحَ هولاكو الكتابَ الثالِث بِفُضُول.. خواطرُ وَنصوصٌ نَثرِيَّةٌ أَدبِيّة.. صَفَحاتٌ شِبهُ فارِغَةٍ إلا مِن فَقرةٍٍ في مُنتَصَفِهَا.. يُقَلّبُ الصَّفحات.." خِيانَةٌ مَشرُوعَة.. أَحبَبتُها حَدَّ الجُنون.. الأحمرُ يَليقُ بِها..".. نُصوصٌ ضعيفةُ اللغةِ رَكيكةُ النظمِ والأسلوب.. صُورَةُ الكاتِبِ المُراهِقِ عَلى الغِلاف الخَلفِي.. شابٌّ يافِعٌ لا يَتَجاوَزُ التاسِعَةَ عشرة مِن عمره.. وَعلى غِلافِ الكِتاب الأمامِي شابَّة فِي مُقتَبَلِ عمرها تَلبِسُ فستاناً قَصِيراً وَتجلِسُ على كُرسِيّ شَارِدَةً أمامَ نافِذَةِ غُرفَتِها.. حَملَقَ فيّ قائلاً:" حَدِّثنِي عَنْ كُلِّ شَيء.. حَدِّثنِي عَن عُلماءِ الدين.. عَن الحُكامِ والسَّلاطِين.. عَن أحوالِ المُسلِمِين"..

 
استَمَرَّت المُحادَثَةُ مع هولاكو طَويلاً.. طويلاً جِدّاً.. أكانَ حُلُمَاً أَم هَلوَسات غَيبُوبَة! لا أدري بِالضَّبط.. عَرَفَ هولاكو ما آلت إليهِ بِلادُ الإسلامِ مِن هَوانٍ بَعدَ قُوَّة، وَمِن ذِلَّةٍ بَعدَ عِزَّة، وَمِن خَرَابٍ بَعد صَلاحٍ وَعَمار، ومِن هَزِيمَةٍ بَعد تَمكيٍنٍ وَنَصر، ومِنْ تَبَعِيَّةٍ بَعْدَ قِيادَة.. ومِن جَهْلٍ بَعد عِلمٍ وَمَعرِفَةٍ وَتَقَدُّمٍ وَتَطَوُّرٍ فِي شَتَّى المَعَارِفِ وَالعُلُوم.. عَرَف كَيفَ انقلبت الموازين، فَصُدِّقَ الكاذِبُ وَكُذِّبَ الصَّادِقُ.. وَصُفِّقَ للباطِلِ وَسُفِّهَ الصَّوابُ والحقُّ.. قالَ لِي بَعدَها مُسْتَبشِراً مَقولَةً لَنْ أنساها: "سَتفعلُ هذه الكُتُب والشَّخصياتُ فِيكُم فِي بِضعِ سَنواتٍ ما سَأعجزُ أنا عن تَحقِيقِهِ فِي قُرُون ".. رَمى الكُتُبَ الثلاثَةَ فِي وَجهِي.. وألقَى بِنَفسِهِ فِي دِجلَة!! ما تَغَيَّرَ لونُ مِياهِ النَّهر!! وَما زِلتُ أنا فِي غَيبوبَتي وما استَيقَظت!!

 
هَلْ كانَ هولاكو عَلى حَق؟ أم أنَّ ما شاهدتُهُ كانَ مُجَرَّدَ أضغاث أَحلام؟ لِمَ ألقى هولاكو نَفْسَهُ في دِجلَة عوضاً عَن الكُتُب؟ وَلِماذا ما زِلنا نَحنُ فِي سُباتِنَا وانبِهارِنا الأعمى وَما استيقظنا؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.