شعار قسم مدونات

رمزيَةُ غزة في مسيرات العودة الكبرى

BLOG Sمسيرات العودة

في طريقك للبحثِ عن المجدِ وعن الكرامة، أُمرر بغزةَ والق عليها التحيّةَ، علّكَ تأخذ بنفسك أن تبقى فوق تُرابها وتتنفس عبق الحريةِ المسلوبةِ في زمن العبوديةِ والهوان، لا تحاول أن تبقى على الشريطِ الحدودي.. امتزج بجسدك بين الجموع المجتمعة في مسيرة العودة، واحمل ذات الشعار، فلم يكن هناك من يعيش في فلسطين المحتلة لا يريد العودة، فطالما أقحموا عقولنا بأنَّ العودةَ حقٌّ كالشمس.

ومُذ انطلقت مسيرات العودة الكبرى في الثلاثين من آذار لعام 2018 في غزة تبيّنَ أن هناك الآلاف من الشعب الفلسطيني يطمح بأن يعود إلى السبع وبيت جبرين، وعراق المنشية، وصفد، حيفا، ويافا، وعكا. وفي كلِّ حراكٍ تقوده غزة عليك ألا تكتفِ بالعناوين المألوفة للجميع، تعمقَ أكثر فأكثر لتجد حكاياتٍ متعددة فقط خلال حراكٍ واحد، لذلك لن نعود للحروب الثلاثة التي خاضتها غزة، ولن نعود ليوم تحرير القطاع من المستوطناتِ والحواجز العسكرية، وبضعُ آلياتٍ كانت تتجول في مخيم جباليا، ومخيم النصيرات، ورفح، والشجاعية… إلخ، كما الحال اليوم في الضفةِ المحتلة المستباحة ليلَ نهار دون رادعٍ من أحد، فعدسةُ الكاميرات لم تعد تستطيع أن تُغطي كثرة الأحداث فيها منذ اعتصرت فلسطين ألم الاحتلال عام 1948م.

سنعود للثلاثين من آذار الذي خلَّدَ يوم الأرض الفلسطيني منذ عام 76، فاليوم يتجدد يوم الأرض ويُضاف لهذه المناسبة ذكرى جديدة، ذكرى الزحف الغزاوي للمطالبةِ بحقَ العودة على طول الشريط الحدودي مع الضفة المحتلة، لتستمر هذه المسيرات للخامس عشر من آيار ذكرى النكبة الفلسطينية.

المرأةُ الغزاوية لم يقتصر دورها على استقبال نبأ ابنها الذي يقاوم على الحدود فيستشهدُ بعد ذلك، بل زحفت إلى الشريط الحدودي وكأنها من جيش القسام والأقصى والسرايا

لذلك حينما تتابع أحداث غزة لا تبحث عن عدد الشهداء والجرحى وهالة الدمار والخراب الذي حلَّ عليها في كلِّ خطوةِ كرامةٍ تتخذها، خذ الجانب الذي يعطيك عزةً بهذا الشعب وكرامةً تتمنى أن تحملها بعدما فقدتها لعدة ظروفٍ ألمت بك، فعدد الشهداء سينتشر بالشريط الأحمر على شاشاتِ التلفزة، وعدد الجرحى لن تستطيع أن تميز سيارات الإسعاف التي تقلهم.

 

ومع ذلك فصور الشجاعة تعددت في مسيرات العودة الكبرى، علَّ هذه الرمزيات يتم تعزيزها في الأجيال القادمة، بأنَّ ثقافة المواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي المجرد من إنسانيته لا تقتصر على رصاصاتٍ متبادلة أو حجارةٍ تُلقى باليد والمقلاع، هناك صورًا رمزية أوجدتها غزة خلال مسيراتها، علَّ أبرزها ما يلي:

طفلٌ لا يتجاوزَ عمره 10 سنوات لم يبقى جليس الخيمةِ على الشريط الحدودي لغزة، ولم يختبء خلف عباءةِ والده، جلس قُبالةَ الشريطِ وأمام رصاصِ الاحتلال المتناثر الذي حرَّك التُراب قبل أن يخترق أجساد الشهداء وتُسجى على الأرض، اكتفى بالمشاهدة وهو يصنع من رأس البصل كمامةً للحدِّ من الغاز المسيل للدموع، فهو يريد أن يختنق بعبقِ الأرض ودماء الشهداء لا بغازٍ يستخدمه الاحتلال للحدِّ من حجم الهبَّة في وجهه وهو يتذرع الخوف رغم جهوزيته العسكرية، فالطفل هذا جسَّد رمزيةً جديدةً للشعب الفلسطيني أن الوسائل البسيطة من شأنها أن تخفف من عنجهية الاحتلال وتبقيهم في حالةِ خوفٍ وذُعرٍ متواصل.

خُذ العبرةَ بصورِ غزةَ الرمزيّة ولا تمرر بجانبها مرورَ الكرام، خذها واشحذ هممك وانطلق بركبِ الكرامةِ والشموخ، فلم يتقاعسَ شعبٌ أراد الحرية وآمن بكسرِ القيدِ وانجلاءِ الليلِ
خُذ العبرةَ بصورِ غزةَ الرمزيّة ولا تمرر بجانبها مرورَ الكرام، خذها واشحذ هممك وانطلق بركبِ الكرامةِ والشموخ، فلم يتقاعسَ شعبٌ أراد الحرية وآمن بكسرِ القيدِ وانجلاءِ الليلِ
 

المرأةُ الغزاوية لم يقتصر دورها على استقبال نبأ ابنها الذي يقاوم على الحدود فيستشهدُ بعد ذلك، بل زحفت إلى الشريط الحدودي وكأنها من جيش القسام والأقصى والسرايا، حملت بيدها العلم الفلسطيني وبقيت تزحفُ وهي مليئةً بالعزِّ والشموخ، وهزَّت بجذعِ الشهادة في سبيل الحرية والعودة، منهنَّ من أُصيبت برصاصةٍ في قدمها ومنهن من اختنقنَّ، إلا أن الزحف تواصل للحدود، وما دام العلم الفلسطيني حاضرًا لن يكون هناك تقاعسًا في من يتقدم ويتأخر، فاللواء يبقى مرفوعًا دام النفس حاضرًا والقلب ينبض عند كلِّ فلسطيني بالوطن.

ولم يعتاد العالم على السلسلةِ البشريةِ إلا بصورها المعهودة إما تضامنًا مع أسيرٍ أو حمايةً من قمعٍ وتنكيلٍ في أي مظاهرةٍ ضد سياسة الاحتلال، أو قمع الأنظمةُ العربيةُ لشعوبهم في اعتصاماتهم السلميّة، لكنَّ في غزةَ الوضع كان مُغايرًا بشكلٍ كامل، بضعُ شبانٍ شكلوا سياجًا بشريَا حول فتاةٍ كان ظهرها لرصاصاتِ الغدر التي كثرت، عملوا على رَصٍّ الصفوف الداخليةِ لمجابهةِ الاحتلال جيدًا، ليواجهوا الموت بصدورهم لحمايةِ شرفهم الذي أكمل المشهد المقاوم لهذا الشعبِ الجبار.

لذلك خُذ العبرةَ بصورِ غزةَ الرمزيّة ولا تمرر بجانبها مرورَ الكرام، خذها واشحذ هممك وانطلق بركبِ الكرامةِ والشموخ، فلم يتقاعسَ شعبٌ أراد الحرية وآمن بكسرِ القيدِ وانجلاءِ الليلِ، وأن القدرَّ سيستجيبُ لهم. فهم يسيرونَ للحريةِ التي أصبح بابها ثقيلًا ولن يزول الباب إلا بيدٍ مُضرجةٍ بالدمِ لأجل الكرامة، وسلاحٍ آمن بحتميةِ التحرير من فوهته لا بالطرقِ السلمية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.