شعار قسم مدونات

لكن كلُّهم كذبوا!

مدونات - ترمب وأوباما
في ليلة من ليالي أغسطس آب 2013، قابلت (بشَّار) صديقي السوري الذي كان لاجئًا في إحدى الدول العربية وأخبرني أنه عازم على العودة إلى سوريا بعد أن ضاق ذرعًا بما يعيشه، وبما رأى في غربته، وأنه يبحث الآن عن أقرب طائرة تعيده للبلاد.. سألته: لم الآن؟! ولم تعد سوريا مكانًا آمنا لك خصوصا وأنه لابد أن تنضم للخدمة العسكرية في الجيش السوري وهذا يعني أنك ستصبح قاتلاً في صفوف النظام ولأجل هذا السبب أصبحت لاجئا هنا.. أجابني قائلاً: "لم يعد يهمني وقد وضع الرئيس الأمريكي (باراك أوباما) خطًّا أحمر لاستخدام الأسلحة الكيميائية ضد المدنيين، وقد استخدمها الجيش السوري في ريف دمشق ليقتل مئات المدنيين السوريين".

 
حينها هدد وقتها (أوباما) بأن هناك تدخلًا عسكريا في سوريا سيحدث ردًّا على هذه المجزرة الكيميائية.. وقامت الدنيا ولم تقعد في الإعلام الغربي والعربي عن أن هذا الهجوم سيكون قريبًا جدا.. أجبته: أرجوك انتظر حتى ترى فهؤلاء لا يجب أن تثق بهم ولا بكلامهم، فما يحركهم ليست الدماء والأشلاء ولا الإنسانية.. بل هم يستخدمون كل هذه المآسي لصالحهم السياسي والاقتصادي لا أكثر..

 

مصلحة أمريكا الأكبر في هذه الألعاب النارية، هي رسالة سياسية عابرة للقارات لكوريا الشمالية، فسوريا أصبحت حلبة صراع لكل من يريد أن يفرض قوته على الآخر لكن على حساب من؟

وحدث ما نصحت، ولم يحدث ما قاله الآخرون فقد كذبوا. وما أشبه هذه الكذبة بكذبات كثيرة سبقت وكذبات أكثر قادمة.. وأكثر هذه الكذبات لا يدركها الكثير.. إلا إذا مر وقت طويل يسمح لهم بتبنيها وتصديقها والموت في سبيلها أيضًا، حتى يأتي ذلك اليوم الذي نُصدم بها ولا نكاد نصدق ما نسمع. على سبيل المثال: قال أحدهم لصحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية صراحة: إننا استخدمنا "الوهابية" وساعدنا على انتشارها في بلادنا خلال الحرب الباردة مع السوفييت بطلب أمريكي". وهذا يعني من زاوية واحدة فقط: أن مئات الشباب المسلم الذي خرج وهاجر لبلاد أُخرى تحت مسمى الجهاد ونيل الشهادة في سبيل الله.. وقُتل هناك، وتناثرت دماؤه وأشلاؤه ودفن في أرض لا يعرفها …كان كل ذلك في سبيل الطلب الأمريكي. وأيًّا ما كان الأمر.. يا لهذه البشاعة.. أن تستخدم المسلمين بالدِّين في محاربة "الكافرين" لأجل "الكافرين". ولو استطردت في الحديث عن هذه الكذبة، لاحتجت إلى مقال وربما كتاب كامل أكتب عنها وعن أحداثها وعن تبعاتها القادمة.

 
لكن هناك كذبة من نوع آخر حدثت منذ أسابيع قليلة، فعندما قام "ترمب" ومعه بريطانيا وفرنسا بشن غارات على مواقع للجيش السوري بعد استخدام الأخير سلاحًا كيميائيًا جديدًا، وصف ترمب الرئيس السوري "بالحيوان".. وهو كما قال، لكن ترمب ليس بأحسن حال منه، وهذا متمثل في الدور المسرحي الذي قام به ترمب.. فما هذه الضربات إلا ألعابٌ نارية تضفي شعاعًا وبريقًا للحيوان الأول فتجعله يبدو كالرئيس الشجاع الذي واجه عدوانًا ثلاثيًا وانتصر عليه كما هللت وصفقت بذلك كل وسائل الإعلام المؤيدة لهذا الرئيس.

 

ومصلحة أمريكا الأكبر في هذه الألعاب النارية، هي رسالة سياسية عابرة للقارات لكوريا الشمالية، فسوريا أصبحت حلبة صراع لكل من يريد أن يفرض قوته على الآخر لكن على حساب من؟ على حسابنا نحن.. وعلى حساب الشعب السوري الذي أصبح كحقل تجارب لكل من يشارك في هذه الحرب الشاملة.. فكما صرح بذلك رئيس هيئة الأركان العامة للجيش الروسي (فاليري غيراسيموف): "جرّب جيشنا الروسي 200 سلاحا جديدا خلال سنتين من حرب سوريا، ونتيجة لهذه التجارب.. لقد حققنا قفزة نوعية في مجال تقنيات الطائرات دون طيار، والتي صارت جزئاً حيوياً من جيشنا" نعم لقد حقق حيونةً عالمية في سماء عالمنا التعيس.. ونحن من يدفع من دمائنا نتائج تلك التجارب، وسندفع من جيوبنا أيضًا لهم إكراميةً سخية لعرضهم تلك الألعاب التي شاهدناها والتي نشاهدها يوميًا.

   undefined

 

لقد كان كثير منا يعتقد بأن هذا التدخلَ الأمريكي في سوريا سيكون مشابهًا لهجومها العسكري في عهد (بوش الابن) على العراق وإسقاطها لنظام الرئيس العراقي صدام حسين، لكنهم كذبوا. ولا أظن وقت أن اعتقدنا ذلك.. أننا فكرنا بويلات الاحتلال الذي جناها العراق بعد ذلك.. لكن ذلك لا يهم فما فعله الأسد لم يفعل نصفه الاحتلال الأمريكي. كل ما كان يهمنا جميعا هو إنهاء تلك الجرائم التي تحدث في سوريا بأي طريقة كانت حتى ولو كان احتلالًا غربيًا قد يُعيد ويلاته.. ولم لا؟! فما ارتكبته القوات الأمريكية النظامية والمرتزقة الذين جاؤوا باستئجار أمريكي في العراق لا يخفى على أحد، فعلى سبيل المثال:

 

أصدرت "هيئة إحصاء القتلى العراقيين" تقريرا يذكر فيه أن عدد الذين قُتلوا من المدنيين فقط منذ بداية الغزو 2003م وحتى عام 2010 بلغ أكثر من (106.000) شخص، ناهيك عن عدد المهاجرين والنازحين من مناطقهم وعن الدمار الذي حل بالمنشئات والبنية التحتية للعراق. ثم يخرج بعد هذا كلِّه (بوش) في مقابلة مع قناة "آي بي سي" الأمريكية ليقول: "أنا آسف أسفًا شديدًا لأننا تدخلنا في العراق. لقد أخطأنا". هل أخطأ في حق العراقيين، وهو آسف على ذلك؟ أم أخطأ في حق جيشه الصفيق الذي قُتِل هناك؟، فوفقا لآخر أرقام وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون)، فقدت الولايات المتحدة 4487 عنصرا في العراق منذ غزو تلك البلاد في ما بات يُعرف بـ "عملية حرية العراق" في التاسع عشر من شهر مارس/آذار من عام 2003. وفي 31 أغسطس/آب من عام 2010، أي مع انسحاب آخر دفعة من العراق، بلغ عدد القتلى في صفوف القوات الأمريكية 4421 عسكريا، قضى 3492 منهم خلال مشاركتهم في الأعمال القتالية، بينما بلغ عدد الذين أُصيبوا جرَّاء العمليات 32000 شخص. ولا زالت الولايات المتحدة الأميركية تحصد ويلات الحرب الناتجة عن هذا الخطأ "الحيواني".

 

لقد كان صديقي (بشار) آملاً أن تنتهي مأساة بلاده بسرعة وقد كنّا في عام 2013، لكن كلّهم كذبوا. لم يكن يدري ولم نكن نحن نتوقع في عقولنا البسيطة المخدوعة يومًا بعد آخر.. أن هذه الخطوط الحمراء تم تجاوزها مئاتِ المرات قبل ذلك وأنه لا خط أحمر أصلا في هذه الحرب الشاملة.. وقد وصلنا إلى عام 2018 ولا خلاص يبدو في الأُفق.

 

عزاؤنا في كل هذا أننا كنا آملين وما زلنا.. أن كل هذه المآسي ستنتهي يومًا؛ إذا توقفنا عن التصديق وأخذنا من التاريخ والأحداث عِبر وعملنا بكل طاقاتنا لتغيير هذا الواقع المؤسف، وعزاؤنا الأكبر أن كل من رحلوا عن هذا العالم البغيض، ذهبوا لعالمٍ أجملَ وأكثر راحة، وتركوا لنا عناء التغيير والتبديل حتى آخر رمق، وعزاؤنا في شبابنا الذين ذهبوا وحاربوا وقُتلوا في سبيل الله لم يكونوا يُدركون أنه قد غُرّر بهم في سبيل غيره، بل ماتوا باستبسال وشجاعة وفطرة سليمة لم تتخللها نجاسة السياسة وألاعيبِها، عزاؤنا هذا أيضًا لا يكفي إذا لم نحاول ونحاول بكل ما نملك ونستطيع في كشف كل الأكاذيب التي تُحاك يوميًا لنا، حتى على الأقل إذا مر التاريخ على ذكرنا وذكر ضعفنا وهواننا على الناس، قال التاريخ رغم كل ذلك: لكنهم صدقوا.

__________________________________________________________________________
مصدر الإحصائيات: موقع الـ "بي بي سي".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.