شعار قسم مدونات

محمد صلاح.. الداعية

مدونات - محمد صلاح

في متاهة العناوين وتقلّب المواضيع وزحمة الأحداث يبدو أمرُ اختيار موضوع للكتابة عنه أمرًا مُحيِّرًا، فالأسئلة كثيرة وما يجول في الخاطر من أفكار أكثر، وتسارع الأحداث ونسبية الوقت المتعلقة بذلك تدفعُ عجلة الكتابة لتواكب كلّ جديد، ولكنّ بعض الأحداث لا بُدّ لها من مطبات -آمنة- للوقوف عندها ورصدها بكاميرا الحقيقة والدقة والموضوعية، بعيدًا عن الانسياق أو التساوق مع أي تغريض أو تعريض أو تحريض، وللحيلولة دون وقوع أي أضرار قد تقع نتيجةً للتهوَّر والعجلة، وخصوصًا في إطلاق الأحكام وتحديد انعكاسات الأحداث وما لها من تأثير على الشارع، والسعي بجهدٍ وكدٍّ للقراءة الإيجابية لمستجدات الأحداث ومحاولة استخلاص العبرة والفائدة والبحث الدؤوب عن المَحْمَلِ الإيجابيّ للأمور ما دامتْ تحملُه إقصاءً لمَحْمَلِ التشاؤم والسلبيّة الذي بات هاجسًا يسيطِرُ على كثيرٍ من العقول تحفِّزه نظرية المؤامرة التي سلبت الألباب وأخرجت كثيرًا من قاطرات النجاح والتفوق عن مسارها.

 

مقالي لن يكون رياضيًّا في المقام الأول ولن يتحدَّث عن إنجازات محمد صلاح الكروية في مَعْرِض الإحصاء الكرويّ والأداء الفنيّ لهذا اللاعب، فلستُ بارعًا في ذلك من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ رؤيتي ومتابعتي لعالم كرة القدم تأتي في إطار ضيِّق ومتابعةٍ لأهمّ المباريات والأحداث والمواقف في ذلك المستطيل الأخضر وما يَتْبَعُه من تأثيرٍ خارجه ممْتدًّا لعالم الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعيّ، فكان ما حقّقه صلاح مؤَخَّرًا من تأثير غير مألوف ونادر في عالم كرة القدم داعِيًا مُهمًّا للحديث عن الأثر والتأثير للاعب عربيّ مُسلم شقَّ طريق حياته بصعوبة وجهدٍ وكدٍّ، ليبلغ مَبلغًا لم يسبق للاعب عربيّ مسلمٍ من قبله أن يَبْلُغه، إذن؛ نحنُ أمام حالة إبداع ليست كُروية رياضيّة فحسب، بل قصة نجاح مُلهمة جدًّا تعدّتْ نطاقَها الرياضيّ لتصل لقلوب وعقول جماهير ليفربول وتُبدَّل فيهم ولو شيئًا بسيطًا ما لمْ تستطعْ أموالٌ وكلمات من قبلُ أنْ تفعلَه!

 

علينا أنْ نتخلّصَ من عقدة نقص العربي المسلم تجاه التفوق والإبداع، وأنّه مرتبط بالغرب، وأنّه إذا ما تفوق عربي مسلم لا يشبه تفكيرنا في كل شيء

أعلمُ تمامًا توجُّس البعض وتَحَسُّسَهم -وربَّما كثيرين- من هذا الإسقاط الذي عنونتُ به مدوّنتي، بعضُهم كارهٌ لظنِّه أنَّني أبالغ وأنَّ محمد صلاح لا يستحقُّ إنجازه أن يذهب أبعدَ من كونه إنجازًا كُرويَّا بحْتًا، والبعضُ الآخر يخشى على صلاح منْ أنْ يتحوَّل عن هدفه الأساسيّ وهو التفوُّق الكرويّ وينتقل لإشباع رغبة جماهيره وإملاءاتهم بما يريدون له أنْ يكون، ولكنّني هذه المرّة سأقول أنّ "صلاح" تخطّى حدود ذلك المستطيل، فلمْ نعتدْ أن يتأثَّر جمهورُ كرة قدم بديانة اللاعب ومعتقداته حتى يصبح ربط التفوُّق والنجاح الكُرويّ بدينه الإسلام أمرًا يحتلُّ حيِّزًا في عقولهم وقلوبهم ليصل بهم ذلك ليهتفوا: "لو سجل المزيد، لكنت المسلم الجديد.. لو جلس بالمسجد، لكان بالمسجد جلوسي". هذا هو هتاف جماهير ليفربول "الحُمُر" كلما هزّ محمد صلاح الشباك، بل إنّ أطفال ليفربول يسجدون تأسيّا به كلما سجّل أحدهم هدفًا ومنْ يدري..

 

نعم؛ أصبح "صلاح" ناقلًا لرسالة عظيمة -بقصد أو بغير قصد- من خلال لعبة كم أسرف بعض "الشيوخ" و "الدعاة" في ذمّها والنهي عن مشاهدتها بحجة إضاعة الوقت، بدلَ أنْ يرشِّدوا طاقاتهم المبذولة لمشاهدتها ويلفتوا أذهانهم وعقولهم إلى ثمرة الخير التي يستطيع المرءُ قطفَها من ذلك، بدعوتهم للتمسك بدينهم وأخلاقهم حتى في لعبة هدفها الأول الترفيه والتسلية، ولكنَها بلا شكّ لعبةٌ لطالما كانت الأخلاقُ فيها عنوانًا بارزًا ومُهمًّا. فها هو سجود "صلاح" تعبيرًا عن فرحه بالتسجيل قد أثار التساؤلات -تساؤلات مُهمّة- في عقول وقلوب تلك الجماهير: "عربيٌّ مسلمٌ ناجح، عربيٌّ يلعب كرة القدم ويبدع، بطلنا مسلم"، هذا ما يدور في عقولهم، حتى وإنْ لم يقصد "صلاح" ذلك فهو يمارسُ دعوةً إلى الله، فالدعوة إلى الله لها أشكالها المختلفة، وإتقانُ المرء ما يصنعُ هو من خير صنيع المسلم، قال رسول اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّم: (إِنَّ الله يُحِبُ إذا عَمِل أحَدُكُم عَمَلا أنْ يُتْقِنَه) فيُتقنَه ماديّا بظاهر فعله وفي هذا "صلاح" قدْ أفلح ويُتقنَه معنويًّا بالإخلاص وهذا بينه وبين ربّه ونسألُ الله له ذلك.

 

تزاحم حدثا استشهادِ العالم الفلسطيني "فادي البطش" وتألُّقِ اللاعب المصريِّ "محمد صلاح" بحيث شكّلا مسرحًا لمقارنات وآراء منها ما توافق ومنها ما اختلف، وبدورهم علّق مسؤولون إسرائيليون -بدهائهم ومكرهم- على كلا الحدثين بما يتوافق مع سياسة دولة الاحتلال في بثّ الفتنة وإشعال فتيل الفرقة بين المسلمين والعرب، فليبرمان دعا "صلاح" للخدمة في جيش الاحتلال الإسرائيلي من جهة، وصرِّح بأنَّ "البطش" متطرفٌ وإرهابيّ وطالب مصر بعدم السماح بأن يُوارى ثراه في قطاع غزة المُحاصر، وأَطَلَّ أفيخاي ادرعي -كعادته فتّانًا- بصورة تقارن بين طفلٍ يقذفُ حجرًا و"صلاح" بقوله أنّ الأول فاشل والثاني ناجح، ليصنعَ خلافًا ويعمِّق الشرخ بين أبناء المِلَّة الواحدة.

 

إنَّ مقارنةً كهذه لا يصحُّ تناولُها ولا التعاطي معها لأنّها لا تخدم إلا أهدافًا عدائية، ففادي البطش كعالم ونابغة يُحتذى به، ومحمد صلاح كلاعب وشخصية صانعة للحدث ومؤثرة كذلك يُحتذى به، فالاحْتِذاءُ ليس شرطًا أن يكون في كلِّ التفاصيل، إنّما بأخذ ما ينفعُ من كلٍّ منهما دون إجبار اختيار أحدهما على الآخر، فسواءً كفادي البطش أو كمحمد صلاح فكلٌّ منهما يشكِّلُ حالة نجاح وتفوُّق، كلٌّ في مجاله وعلى ذلك يعتمدُ نطاقُ تأثيره، فالبطش أقرب للجودة منه للكمّ وصلاح للكمّ منه للجودة وفي كُلِّ خير، وبأيّهما اقتديتَ -في نجاحه وتفوِّقه- فالمهمُّ أنْ تكون على خُلُقٍ وانتماء، لا يهمّ مجالُك أو تخصُّصك، فأنت تؤدي رسالة دعوية تخدم قضيتَك ودينَك وبلدَك كلٌّ في مِضمارها.

 

ولكنْ لنتفقْ على ألّا نُحمَّل "صلاح" ما لا يَحتمِل، فليس "صلاح" مُحرِّرًا ولا من سيُعيدُ مجدَ الخلافة الإسلامية، بل هو يلعبُ كرة القدم قبل كلُّ شيء، فما نطمحُ له من خلال تفوِّقه وسلبِه عقولَ جماهيرِه وقلوبَهم هو أن يُبرزَ خُلُقًا رفيعًا يُظهر من خلاله أنَّ دينه الإسلام وطينتَه العربية ليسا معوِّقان أبدًا لأيّ تقدُّمٍ وتألُّق، بل على العكس هما مُشجعان ودافعان لذلك، وأنّنا كعرب ومسلمين نحتاجُ فقط لفرصة حقيقيّة لنُبرزَ ما لدينا من مواهب، نعم؛ أعلمُ أنَّ الموهبة ليست قرينة الانتماء والدّين، فهي من الله أولًا، ثمَّ من التمرين وبذل الجهد، ولكنَّ هويّتنا العربيّة الإسلامية ثمثُّل مُحفِّزًا مُهمًّا لإبراز تلك الموهبة في صورتها المثالية، ومنْ هنا يبرزُ دورُ "صلاح" كداعية، فكلُّنا كمسلمين دعاةٌ من حيثُ نحن ومن حيثُ نكون إذا ما أتقنّا ما نصنع وأخلصنا، وجعلنا لذلك أثرًا يبقى خالدًا تحفظه سطورُ التاريخ كُلّما دَعَتْها ذاكرةُ الأيام والأحلام.

 

فعلَ صلاح ما عجزتْ سنون طوال وسياسات وتحالفات عن فعله فجمع العربَ والمسلمين على حُبِّه وتبنِّيه كلاعبٍ يمثلهم جميعًا
فعلَ صلاح ما عجزتْ سنون طوال وسياسات وتحالفات عن فعله فجمع العربَ والمسلمين على حُبِّه وتبنِّيه كلاعبٍ يمثلهم جميعًا
 

لقدْ ضرَبَ "صلاح" جذرًا ثابتًا في قلوب مُحبّيه وعُشَّاقه، وأَلْهَمَ الصغير والكبير بمثابرته ونجاحه، ولكنّ البعض -وللأسف- قرَّر التفكير خارج الصندوق فإذا به يهوي لمنزلقات نظرية المؤامرة، ويخترعُ ل"صلاح" دورًا يؤديه ويلعبه ليُشغل الرأي العام في مصر تحديدًا عن القضايا الساخنة والحسّاسة في البلد، مُستعرضين ما يتعرّض له اللاعب المصريّ السابق "أبو تريكة" من مُضايقات كان آخرها الإدراج في قوائم الإرهاب، فهذه مُقارنةٌ لا تصحُّ! بداية لأنّ "صلاح" يحقِّقُ تألقا كرويا أعظمُ بكثير ممّا فعله أبو تريكة أو أيّ لاعب عربيّ وفي سنٍّ صغيرة نسبيًّا، ثمّ إنّنا كعرب ومسلمين فقيرون جدًّا للإنجازات في شتى المجالات، ولذا حينما يبرز عربيٌّ مسلم في أيِّ مجال حتى في كرة القدم، وهي من أكثر قطاعات البروز أهمية لسعة انتشارها وضخامة جماهيرها، فهذا سيؤدي بنا لهذا الاحتفاء ب"صلاح". 

 

علينا أنْ نتخلّصَ من عقدة نقص العربي المسلم تجاه التفوق والإبداع، وأنّه مرتبط بالغرب، وأنّه إذا ما تفوق عربي مسلم لا يشبه تفكيرنا في كل شيء وأتحدث خصوصا عن بعض "الإسلاميين" نفترض أنه لا بد أنْ يكون كقطعة شطرنج تحرّكه اليدُ الخفيّة، وكعادتهم -بعض الإسلاميين- يمارسون سياسة الانسحاب على سياسة قلب الموقف لصالحهم قاذفين من يخالف فكرَهم بشتى التّهم، فلا يعني دعمُ الإعلام المصريّ -بخلفيّته الانقلابيّة- ل"صلاح" أنّه على تقارب مع منهجهم وفكرهم، بل همْ ينظرون له كصيدٍ ثمين بلغ فيهم -جشعًا- مؤخرًّا الاعتداءُ على حقوقه واستغلال صورته لأغراض تجاريّة.

 

فعلَ صلاح ما عجزتْ سنون طوال وسياسات وتحالفات عن فعله فجمع العربَ والمسلمين على حُبِّه وتبنِّيه كلاعبٍ يمثلهم جميعًا، وكأنّهم بذلك يوجِّهون رسالة صريحة: نتوق لذلك الذي يوحدنا خلف راية واحدة، حتى لو كانت راية كرة القدم، بتفوُّقه ونجاحه كمسلم وعربيّ في لعبة هي الأكثر شهرة في العالم، وأقولُ -شخصيًّا-: لمْ يستطع أيُّ نَجْمٍ أو فريق أنْ يُبدِّل وجهتي في التشجيع للنادي المُفضّل لديّ -ريال مدريد- ولكنّ محمد صلاح سيجعلني أعيد التفكير وأشجعَه ليبلغ البطولة ويحقق لقب الهدّاف وأفضلَ لاعب، هُويَّته العربية الإسلامية تجعلني أنحاز له، لطالما حلمتُ بعربيّ مسلم متفوِّق متصدِّرٍ في أيِّ مجال حتى كرة القدم، ولعلّ صلاح الآن يحقق لي حلمي وحلم كثيرين!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.