شعار قسم مدونات

تقاعد أبي.. عاصفة لم نكن نتوقعها!

blogs تقاعد

كان أبي حفظه الله أستاذاً لمادة الفيزياء بمتوسطة مفدي زكرياء العريقة في مقاطعة بني عباس الجزائرية، وقد كان قبل تقاعُدِهِ رَجُلاً عَمليّاً جدًا، وجادّاً إلى درجة الصّرامة، الأمر الذي جعله آية في الانضباط، حتى أنه لا يكاد يَعْرف مَعْنى لكلمة (لا مبالاة)!، ويُخَيَّلُ إلي في كثير من الأحيان- وهو ذاهب إلى العمل- أنه ذاهبٌ للجهاد في سبيل الله من فرط حماسه وحرصه على إتقان عمله!

 

ولم يكن هذا الحرص بالنسبة له نافلة من نوافل العمل التعليمي بل هو واجب مقدس وفريضة دينية كالصلاة والصوم! ولعلّ الله اختار له مهنة التعليم لما علم من أمانته وشغفه بالتدريس، فقد كان يغضب كثيراً إذا انتهك أحدهم حُرْمة التعليم، ولن يرتاح إلا إذا قام بتأديبه وإعادته إلى جادّة الصواب. إن إصرار أبي على السير في هذا الطريق الشّاق جَعَلُهُ حكيماً بامتياز، وذلك لما لاقاه من الأزمات والعقبات في طريقه هذا، فأصبحت الحكمة تتدفق من لسانه بسلاسة لا عهد له بها!، وفي المقابل وَهَبَهُ الله ودون سابق بُشرى قُبُولاً وحُبّاً واحتراماً من الطّيِّبين.

عندما تقاعد أبي شَعَرْتُ أن الدنيا تقاعدت مَعَهُ، فجأة تغيّر كل شيء، سواء من جانبه أو من جانب الآخرين، وقد اتّصل بي الكثير من الناس ليتأكدوا من صحة الخبر وهم يرددون بأسى عبارة واحدة في كل مرة: (هل تقاعد والدك حقاً؟! أرجوك لا تقل إنه فعلها!)، إن الأمر كان أشبه بمأساة أو حدث خطير بالنسبة لهم، أو لعلّه كذلك فعلاً!، والغريب أن مُعْظم تلاميذه كانوا يأتون إلى منزله ويُطالبونه بالعودة إلى التدريس والدُّموع تملأ عُيونَهُمْ.

 

وقد قُلتُ له مرة: (أنت صاحب مبادئ وإنجازات ومصدر إلهام، لذا أفترض أنك سعيد بتقاعدك بسبب ما حقّقْتَهُ في الماضي)، فابتسم وقال: (بالعكس يا ابني، كلما زادت إنجازاتك كلما زادت رغبتك في تقديم أفضل ما لديك وأنا لم أُقدّم أفضل ما لديّ بعد!، ولكن هذه سنّة الحياة وهناك أبواب أخرى كثيرة يمكن الولوج إليها لاستمرارية العطاء، ومشكلتي الكبرى أنني أتعاطف مع التلاميذ الأبرياء الذين طرقوا باب بيتي!). والحقُّ أن أبي كان عاطفيّاً بقدر صرامته، وأجده دائم التفكير فيما ستؤول إليه المدرسة الجزائرية، وكثيراً ما كنّا نتحاور ونتناظر في قضايا التربية والتعليم، فكان يتكلم بحرقة عن حال التعليم في بلادنا. وهو الذي عُرضِتْ عليه عشرات المناصب الراقية في وزارة التعليم لكنه رفضها، لأنه يدرك حجم الأمانة الملقاة على عاتقه.

هناك الكثير من القصص الحقيقية الملهمة لأشخاص فعلوا في السّتين ما لم يفعلوه في العشرين، إن لكل مرحلة عمرية دهشتها! واللبيب من اكتشف هذه الدهشة وذاقتها روحه
هناك الكثير من القصص الحقيقية الملهمة لأشخاص فعلوا في السّتين ما لم يفعلوه في العشرين، إن لكل مرحلة عمرية دهشتها! واللبيب من اكتشف هذه الدهشة وذاقتها روحه
 

إن صدمة التقاعد لا تَصْرع إلا أولئك الذين عملوا بِجدّ وأمانة وإخلاص، أما غيرهم فالليل عندهم كالنهار سواءاً بسواء، فهم لا يبالون إلا بصبّ رواتبهم في حساباتهم البريدية المُثقلة بالسُّحت!، وهذه حقيقة مُجرّبة وباعتراف وشهادة الكثيرين. لكن ما لم يستوعبه أغلب المتقاعدين هو أن كلمة تقاعد ليست إلا كلمة قانونية تعني التوقف عن العمل النظامي بعد انقضاء المدة القانونية المسموح بها، ومشكلتهم أنّهم يوسعون نطاق هذه الكلمة ودلالتها لِتَشْمُل كلّ صغيرة وكبيرة في حياتهم!، ويسمحون لها باختراق معنوياتهم العالية وتدمير كلّ ذرة حماس فيها!

 

لذا على كل متقاعد أن يعيد النّظر في اهتماماته القديمة والجديدة، ويحاول أن يترجمها إلى واقع عملي، ولا شكّ أنه سيستمتع بذلك، فهناك الكثير من القصص الحقيقية الملهمة لأشخاص فعلوا في السّتين ما لم يفعلوه في العشرين، إن لكل مرحلة عمرية دهشتها! واللبيب من اكتشف هذه الدهشة وذاقتها روحه في الوقت المناسب! إنه لمن الصّعوبة بمكان أن يُفارق الإنسان مِهْنَة مارسها لمدة ثلاثين عاماً أو يزيد، إلا أن تجاوز هذه الصعوبة مرهونٌ بتحقيق المتقاعد لذاته وهذا لا يحصل إلا مع من خَطّطَ لتقاعده من أول يوم له في وظيفته! وهذا ما فعله أبي بالضّبط…!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.