شعار قسم مدونات

بين الاعترافات بالفضل والجميل ودعاوى النكران والتضليل

blogs مكتبة

ثمة قول تردد أن "من لا يصنع تاريخه بيده سيسمع عنه أو يقرأ ما يكتبه الآخرون فيه".. ربما كان ذلك صحيحاً أو يكاد .وما كان ليحصل ذلك لو أننا نحن العرب وظْفنا جهودنا وطاقاتنا بمزيد من تقوية دعائم الفكر التاريخي وترسيخ قيم الحداثة في فكرنا، حتى لا يتبجّح أحد من كتّاب الغرب ويتحدث باستعلاء ويحكم علينا بالتخلف والجهل ونُوضع في موضع الشك من تلك المكانة المرموقة في حقول العلم والمعرفة والحضارة وصنع التاريخ.

ولعل أكثر ما يثير الاستغراب أن الغرب المتطور أوكل إليه في حقبة من تاريخ البشرية أن يكتب عنا ويصنفنا أمماً وشعوباً حسب ما يريد لنا أن نكون خدمة لغاية في نفسه. وزيادة على ذلك دعوة البعض منهم إلى إعادة النظر بآراء مؤرخيهم ومفكريهم كجورج سارتون وغيره بحق العلماء العرب وعظمتهم، متجاهلاً الوقت الذي كان فيه العرب والمسلمون ينعمون بالحرية السياسية ويصدعون بكلمة الحق في وجه الباطل، كان الغرب حينها يعيش أبشع ألوان القهر والطغيان والاستبداد من طرف سلطاتهم بما لا يمكن تصوره. 

إلا أن هذا الخطاب الاستعلائي لا يصدر عن كافة النخب الفكرية والإعلامية الأوروبية بصورة عامة، فقد اعترف كثير من المفكرين في الغرب من ذوي الإنصاف أن الحضارة الغربية تأثرت بالحضارة الإسلامية في عدة جوانب ومنها الجانب السياسي على سبيل المثال لا الحصر.. وأن الحروب الصليبية عادت بالفائدة على الحضارة الغربية بعد احتكاكهم بالمسلمين ولا بد لنا هنا من ذكر شهادات بعضهم في إثبات مدى تأثر الغرب بالحضارة الإسلامية.

العلماء الأوروبيين المهتمين بالعلوم والفلسفة بدأوا في القرن الثاني عشر يدركون أن بوسعهم أن يتعلموا من العرب الكثير وبدأوا يدرسون المؤلفات العربية في موضوعات بحثهم

قال مونتجومري وات: "لقد ُزود الفكر الأوروبي بغذاء ومواد جديدة وفتح أمامه عالماً كاملاً جديداً من الميتافيزيقا وكان على كافة مذاهب الفكر الأوروبي أن تدرس أولاً ترجمات المؤلفات العربية. ثم قال: وقد كانت كافة المدارس الأوروبية مدينة أعظم الدين للمؤلفين العرب. وقال: "إن منظور الموضوع عندي سيختلف عن منظوره لدى المؤرخ الأوروبي ذلك أني لن أنظر إلى المسلمين باعتبارهم دخلاء من بين العديد من الدخلاء على القارة الأوروبية وإنما باعتبارهم ممثلين لحضارة ذات إنجازات عظيمة تدين لها بالفضل رقعة كبيرة من سطح الأرض وهكذا مهدت الصلات التجارية والتواجد السياسي في إسبانيا وصقلية الطريق أمام الثقافة العربية الأرفع شأنا للتوغل تدريجياً في أوروبا الغربية ورغم أوروبا الغربية كانت لها صلات بالإمبراطورية البيزنطية فقد نقلت عن العرب أكثر مما نقلت عن البيزنطيين. فالمرء بوسعه أن يرى أن العلوم والفلسفة الأوروبية ما كانت لتتطور بدون فضل العرب في الوقت الذي تطورت فيه".

وقال أيضاً: "ولم يكن العرب مجرد نقلة للفكر اليوناني وإنما كانوا حملة للشعلة مبدعين وحافظوا على العلوم التي درسوها ثم وسعوا آفاقها وحين شرع الأوروبيين حوالي سنة 1100 في الاهتمام الجدي بعلوم أعدائهم العرب وفلسفتهم كانت هذه العلوم والفلسفة في أوجها وكان على الأوروبيين أن يتعلموا كل ما بوسعهم تعلمه من العرب قبل إن يتمكنوا بأنفسهم من إحراز المزيد من التقدم في هذه المجالات".

وقال: "من المؤكد أن العلماء الأوروبيين المهتمين بالعلوم والفلسفة بدأوا في القرن الثاني عشر يدركون أن بوسعهم أن يتعلموا من العرب الكثير وبدأوا يدرسون المؤلفات العربية في موضوعات بحثهم ويترجمون أهم المؤلفات إلى اللاتينية". "إن الترجمات السابقة هي التي كان لها الفضل في فتح المجال أمام التأثير العظيم لعلوم العرب وفلسفتهم في الحياة الفكرية في أوروبا الغربية".

ومن أفضل ما قال قوله: "إن تأثير الإسلام في العالم المسيحي الغربي هو أضخم مما يظن عادة فلم يقتصر دور الإسلام على تعريف أوروبا الغربية بالكثير من منتجاته المادية واكتشافاته التكنولوجية ولا على إثارة اهتمام الأوروبيين بالعلوم الفلسفية بل إنه دفع أوروبا أيضاً إلى تكوين صورة جديدة لذاتها.. وقد أدت مواجهة الأوروبيين العدائية للإسلام إلى تهوينهم من شأن أثر المسلمين في حضارتهم ومبالغتهم في بيان أفضال التراث اليوناني والروماني عليها".

لا بد من الوقوف بوجه كل دعاوى التضليل والتغييب التي تسعى إلى عزلنا عن تاريخنا والنيل من احساسنا به تحت وطأة الشعور بالتخلف والنقص لإبقائنا في مكان الإنسان المستهلك
لا بد من الوقوف بوجه كل دعاوى التضليل والتغييب التي تسعى إلى عزلنا عن تاريخنا والنيل من احساسنا به تحت وطأة الشعور بالتخلف والنقص لإبقائنا في مكان الإنسان المستهلك
 

ويوضح سر تعلق أوروبا بفلاسفة اليونان رغم أن الفائدة الكبيرة استفادوها من المسلمين فهو يوضح سبب هذا الجحود والنكران قائلا: "إن اهتمام الأوروبيين بأرسطو لا يرجع إلى المقومات الأساسية لفلسفته فحسب وإنما يرجع كذلك إلى انتمائه إلى تاريخهم الأوروبي وبتعبير آخر فإن إحلال ارسطو مكان الصدارة في الفلسفة والعلوم ينبغي النظر إليه باعتباره مظهراً لرغبة الأوروبيين في تأكيد اختلافهم عن المسلمين.. ولم يكن هذا النشاط السلبي تماماً المتمثل في التنكر للإسلام أمراً سهلاً بل كان في الواقع أمراً مستحيلاً خاصة بعد كل ما تعلمه الأوروبيون من علوم العرب وفلسفتهم ما لم يكن قد صاحب هذا التنكر نشاط إيجابي وكان هذا النشاط الإيجابي متمثلاً في الدعوة إلى العودة إلى ماضي أوروبا الكلاسيكي أي إلى حضارة الإغريق والرومان".

وفي موضع آخر يقول العالم الانكليزي جونسون: "إننا نرى إخواننا المسلمين مولعين بالوقوف على عاداتنا وأحوالنا ويسعون في تقاليدنا ولكننا نحن الذين يجب علينا أن نأخذ عنهم ونتعلم منهم، إنهم أصحاب التعاليم الحكيمة وهم المتقدمون علينا في الهداية وهم أصحاب علم الإلهيات وعلم التشريع في العالم المتمدن بأسره وإن لهم الصنيعة الجميلة على تقدم المدنية الغربية ومن الواجب على أهل المملكة الانكليزية أن يقتفوا آثارهم ويسعوا في دفع الأباطيل المنتشرة بين عامتنا عن دينهم وعاداتهم منذ القرن الرابع عشر".

من هنا كان لا بد من الوقوف بوجه كل دعاوى التضليل والتغييب التي تسعى إلى عزلنا عن تاريخنا والنيل من احساسنا به تحت وطأة الشعور بالتخلف والنقص لإبقائنا في مكان الإنسان المستهلك لثقافات غيره . وكذلك لابد من مواجهة التحديات والمتغيرات الراهنة والتعامل معها من موضع القادر على العطاء والإبداع لا من موضع الرافض العبثي وخاصة بعد تحول العالم إلى قرية صغيرة ليس من السهل عزل أنفسنا عنها وليس من المفروض أن نمحي شخصيتنا فيها ونستعير أقنعة لنا من حضارات أخرى.

لهذا إننا مدعوون اليوم أفراد وجماعات وكذلك النخب الثقافية ووسائل الإعلام أن نكون مدركين لكينونتنا وقدراتنا وأن نكون على وعي بحقائق تاريخنا ووجودنا الاجتماعي والسياسي في محيطنا المحلي والإقليمي والدولي حتى يتاح لنا التطلع إلى الغد وصناعة تاريخنا وكتابته بأيدينا..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.