شعار قسم مدونات

هل للموت علاقة بشعورنا الدائم بالغربة؟

blogs - human

في الحديث عن الإنسان يتعقد الأمر دائماً ومهما حاولنا تبسيطه فإنه يبقى مركباً معقداً، لا يمكن الاستدلال بالعقل لوحده، ففي لحظة عاطفة صداقة – كالموت أو الولادة – نُبرم مع أنفسنا اتفاق صامت بتعطيل العقل ولو مؤقتاً ونستسلم لطريق القلب بكل ما فيه من أشياء لا يمكن تفسيرها، ولعل من أهم نتاج هذا التعقيد الإنساني أو ربما من أهم المعارك التي لا يزال الإنسان يخوضها منذ فجر التاريخ هي شعوره المضني بالغربة، الغربة عن محيطه وربما عن ذاته أيضاً.

إننا نعيش في وسط كثرة اجتماعية متضخمة، ففي السنوات الأخيرة عملت وسائل التواصل الاجتماعي على تقليص مساحة الحياة الشخصية حتى أصبحنا على شعور بالتواصل الدائم والاندماج في حياة بعضنا البعض، لكن على الرغم من ذلك لم يؤدِ ذلك الى اضمحلال الشعور بالغربة، بل ربما زاد منه أيضا وساهم في بلورته وتشكيله بصورة جديدة مختلفة.

إنه شوقٌ ما إلى عالم مجهول، أملٌ بعودة ما، حالة تأهب لسفر مرتقب، إنه العيش على أهبة الرحيل كأن باب العمر قد بقي موارباً، وكثيراً ما يحتدم الأمر في داخلنا فندخل في حالة عزلة شعورية وتسيطر علينا نظرة زوالية مليئة بالسلب تجاه كل شيء، ويؤدي ذلك بالنهاية إلى شعور متلازم باللا انتماء إلى المحيط والذات أيضاً، فالبعض لديه مشكلة حقيقة بالانتماء حتى لاسمه ولايزال يشعر بأنه يقوم بالدور نيابة عن أحد ما أو أن العادة اقتضت أن يلتفت ويرد بالإيجاب إذا ما دعاه أحد وناداه باسمه المعروف، إنه إحدى التجارب الشعورية التي ما إن تغمر الإنسان حتى يضرب بعرض الحائط كل التفسيرات المنطقية والتحليلات العقلية، وكأن ذلك إثبات آخر أن العقل لا يمكن أن يكون مصدر المعرفة الوحيد أو الوسيلة الوحيدة التي يستطيع الإنسان باستخدامها أن يتعرف على ذاته والعالم.

إن في قدرة الإنسان على العيش والإقبال على الحياة على الرغم من معرفته المسبقة أنه سوف يموت معجزة نفسية حقيقية، وفي هذا دليل آخر على أن الإنسان لا يمكن أن يكون نتاج عقله فقط

أما إذا أردنا أن نفسر هذا الشعور، ففي ذات الإنسان من التناقضات والتطلعات والقلق الوجودي ما يكفي لذلك، والحديث هنا يطول وقد يأخذ جوانب فلسفية أو نفسية أو اجتماعية، فقد يكون شعورنا الدائم بالغربة دليل آخر على أن الإنسان والطبيعة شيئان مختلفان ينتمي كل منهما إلى عالم منفصل عن الآخر، فلو كان الإنسان نتاج المادة فقط وإذا كان الدماغ يفرز الوعي كما تفرز الكبد المادة الصفراء فلماذا تشعر الطبيعة بالغربة عن نفسها، لو كان الأمر كذلك فالأولى أن نشعر بانسجام وتناسق تام مع كل شيء في عالم المادة بدءاً من أنفسنا وانتهاءً بما يحيط بنا.

ولعل من أسباب هذا الشعور أيضاً طريقة الإنسان الخاطئة في تلقي الحياة والإقبال عليها، وفي ذلك نشترك جميعاً في ما يمكن أن نسميه مجازاً: طفرة الأمل، فمنذ أن خُلقنا وبدأت رحى الأيام تلوك أعمارنا ونحن نتلقى الخيبات والأحزان بمزيد من الألم والقهر، كأنّ الأمر مفاجئ! أو أن الحياة قد نقضت وعداً قد قطعته لنا مسبقاً بالعيشة الرغيدة الهانئة، بالنهاية يخلق هذا اللا توافق بين توقعاتنا عن الحياة وما نلقاه منها حالة من الغربة النفسية والوجودية. 

زيادة على كل ما سبق، يبقى عامل مهم جداً إن لم يكن الأهم في تخليق هذا الشعور بداخلنا هو الموت، الغائب الحاضر، يقول مصطفى محمود: " لا يوجد وهم يبدو كأنه حقيقة مثل الحب ولا حقيقة نتعامل معها وكأنها الوهم مثل الموت" لطالما قلت أن قدرة الإنسان على العيش والإقبال على الحياة على الرغم من معرفته المسبقة أنه سوف يموت أن في ذلك معجزة نفسية حقيقية، وفي هذا دليل آخر على أن الإنسان لا يمكن أن يكون نتاج عقله فقط وأن في الأمر لمسات إلهية في نفس الإنسان جعلت الحياة ممكنة، فالعقل النظري يهتم بالنتيجة فقط التي هي الموت في حالة الحياة، وفي المسألة الإنسانية لطالما كانت النتيجة في آخر سلم الأولويات ولطالما كانت الطريق أهم من الوصول، وبين النفس المُأمَّلة والعقل القانط يدخل الإنسان بغربة حقيقية من حيث لا يدري. قد لا تكون مسألة الغربة الإنسانية بهذه البساطة أو بهذا التعقيد، لكنها بلا شك ككل المسائل الإنسانية تغري للمزيد من البحث والتنقيب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.