شعار قسم مدونات

القشة الفكرية.. كيف تعيد بناء أفكارك؟

BLOGS مثقف

تفرض الحياة على الذي يخوض غمارها، أيا كان، مجموعة من التغيرات يحدثها للتأقلم مع وضع جديد، ليكون ذلك التغيير دليلا على حياته. عدى ذلك، يمكن أن يكون الجمود التام دليلا على الموت، وإن تمشّى المرء بين الأحياء. تلفت هذه التغَيُّرات في كثير من الأحيان أنظار الناس الذين يحيطون بالشخص المتغير، لكنها لا تبلغ في الوَقْع الْتِفاتَهم إلى الأشخاص الذين يتغيرون بشكل جذري ليصيروا مشرقين بعد أن كانوا مغربين، أو العكس.

 

تنتج الصدمة التي يحدثها التغير الجذري المفاجئ عند من يحيطون بالشخص المتغير عن غياب التغيير التدريجي، على الأقل عن أعينهم. لا تنفك الأفواه تنطلق في المجتمعات حيث تطغى نظرية المؤامرة لتكيل للمعني بالتغيير كما كبيرا من التهم المعلبة، بالتخوين أحيانا، وإذا كان الأمر متعلقا بالدين، بالنكوص على العقب، أو أن الله قد ختم على قلبه بالكفر أحيانا أخرى. منقطعة عن الدليل الملموس، لا تعدوا هذه الاتهامات أن تكون باطلة، ليبقى السؤال مطروحا: ما الذي غير فلانا بين ليلة وضحاها من اليمين إلى اليسار أو العكس؟

يقال في المثل المشهور عن كل شيء حدث بعد تراكم: إنها القشة التي قسمت ظهر البعير. القشة عينها لا يمكن لها بحال أن تكسر ظهرا، لكنها إن جاءت بعد مفعول تراكمي لأوزان أخرى تكون هي الحد الفاصل بين حالة استقامة الظهر وحالة انكساره. إن مفعول "القشة الفكرية" أشبه بمفعول القشة التي قسمت ظهر البعير في المثل المذكور. إذا أردنا أن نمثل للأمر رياضيا، فالأمر أشبه بتغيير إشارة مصفوفة من الإيجاب إلى السلب بضربها في -1، لتتحول جميع الأرقام المكونة لها إلى الإشارة عكس ما كانت عليه قبل عملية الضرب. حين قال ديكارت: أنا أشك، إذن أنا موجود، كان الشك هو "القشة الفكرية" التي حولته إلى شكّاك يهدم أكوام المسلمات التي ورثها من مجتمعه، أو بمعنى آخر القشة التي كسرت ظهر البعير الذي كان يحمل عليه كل المسلمات. على ما تبدو عليه القشة من البساطة، فإن المجهود الفكري الذي يبذله الشخص مكلف للغاية.

في حين تكون قشة البعير حدا فاصلا بين استقامة الظهر وانكساره، فإن مفعول القشة الفكرية معاكس تماما. إنه انتقال من انكسار فكري إلى استقامة ينتج عنها بناء فكري جديد

على كل حال، فإن المسائل التي يسري عليها مفعول "القشة الفكرية" هي في الغالب تلك التي تحتاج الى مراكمة مجهود فكري خلال فترة مهمة من الزمن. لا يكون هناك مساحة للإظهار التدريجي للتغيير خلال مرحلة التراكم إذ لا تظهر علامات محسوسة تشاهد بالعين المجردة قبل حدوث مفعول القشة الفكرية. لنفرض، جدلا، أن شخصا كان يؤمن بإله، أَيِّ إله، بما يقتضيه ذلك من التزام بالأوامر الإلهية الخاصة بالدين الذي يتبعه من العبادات والمعاملات. ستجد نشاطه اليومي، بل السنوي أيضا، محددا بالتعاليم الإلهية، يصلي في أوقات محددة، ويقدم القربان في أخرى، ثم يصوم عن الأكل، أو يُقْبِل عليه في أوقات ثالثة. سيُقَيِّد نفسه حتى عن الأشياء التي يلهف إليها، اتقاء غضب الإله وهو راض. بل ربما يضرب في الأرض حاجّا ابتغاء الصفاء، بما يحمله ذلك من شقاء، وهو سعيد.

 

لكن، ماذا يحدث إن أَفَلَ الإله في ذهنه؟ أفولا حقيقيا، كما حدث في قصة البحث الإبراهيمي عن الله حين كان يرتد عن اتخاذ الأجرام آلهة بعد أُفُولِها، أو فكريا، إذا نزل الإله من فَوْقِيَّتِه، وكماله بمجهود فكري يبذله العابد؟ إن "أفول الإله" هو "القشة الفكرية" في هذه الحالة. إنها كفيلة بأن تغير برنامجه الحياتي كاملا. لن يصلي.. لن يصوم.. لن يقدم القربان.. ولن يحج.. لن يحكمه مبدأ الحلال والحرام، بل سينقاد إلى ما يشتهي وما لا يشتهي، أو بالأحرى ما يحقق له الرضى. في الحقيقة، إذا أُطلِق تشبيه القشة الفكرية بالقشة التي قسمت ظهر البعير، لا يعدو الأمر أن يكون مغالطة منطقية إذ هو تشبيه مع الفارق. في حين تكون قشة البعير حدا فاصلا بين استقامة الظهر وانكساره، فإن مفعول القشة الفكرية معاكس تماما. إنه انتقال من انكسار فكري إلى استقامة ينتج عنها بناء فكري جديد. نتج الكوجيطو الديكارتي عن قشة ديكارت ليكون فلسفة جديدة قائمة بذاتها، حتى لا يكاد يعرف إلا بها. أما "أفول الإله" في قصة إبراهيم عليه السلام، فقد كان الأرضية التي نشأت عليها الديانات الإبراهيمية، بعد أن كان شَكَّلَ القشة التي هدمت الديانات الوثنية.

 

أيضا، في حين تكون قشة البعير نهاية، فإن القشة الفكرية لا تكون نهاية إلا في ذهن المفكر، إذ يكون قد استكمل بها هدم ما كان قبله وبناء فكرته الجديدة. أما في علاقته مع محيطه فإن القشة الفكرية تكون بداية مساجلات منطقية، أو حروب حتى، لثني الناس عما كانوا عليه وإقناعهم بالفكرة الجديدة. حمل إبراهيم المعول وكسر الآلهة إلا كبيرا لهم، فلما سأله قومه قال: "قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَٰذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ". حمل المعول، ليكون أفول الإله في أعين قومه حقيقيا كما كان أفول الأجرام حقيقة فيما حصل معه.

إن نظرة واحدة إلى مجتمعاتنا كفيلة بإن تطلعك على عدد الأصنام المنتشرة فيه. أصنام تأتي أحيانا في شكل علوم زائفة، وثانية في شكل أفكار دينية متطرفة، أو معزولة عن الواقع، ثم ثالثة في شكل منظومة أخلاق متهاوية…وهلم جرا. يصلح في كل ما سبق قول البردوني، شاعر اليمن الكبير: كالطاعون يخفى وهو يستشري. إن كلا من الأمور السالفة الذكر ستحتاج إلى أناس يستطيعون بذل المجهود الفكري التراكمي، فيوقعون القشة الفكرية، ولا يهابونها، ثم يحملون المعول. في الختام، متى ستوقع قشتك أيها القارئ ومتى ستحمل المعول؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.