شعار قسم مدونات

الطفل.. نبيٌّ في الأزمات!

مدونات - أطفال الجنة

ميزات الأطفال وما يبرعون به من الحفظ وقوة التركيز وغيرها من القدرات العقلية إلى جانب مهاراتهم في التواصل وذكاء الجانب الاجتماعي لديهم، كلها نتفق عليها وتؤيدنا في ذلك الكثير من الدراسات والأبحاث، لكنني بعدما شاهدت فيلم children of heaven لأكثر من مرة، اكتشفتُ سمة نغفل عنها جميعاً عند كل طفل يولد ضمن ظروف غير عادلة، وهي سمة المواجهة والاحتيال على البؤس المعيشي والفقر. فأظهر الفيلم روح الصغير التي لا تقبل الانسحاب، تواصل، تقاوم، تبتكر وتحتال على الأشياء.

 
فيلم أطفال الجنة (children of heaven) أنتج عام 1997، يظهر نبوة الطفل، ملائكية تصرفاته ونبلها، لا أدري لم تخيّلت وكأن علي وزهراء في الفيلم الاثنين بشخصية الرجل الخارق (سوبر مان)، وكأنهما ينقذان شيء ما من السقوط، يحرسان عالميهما بقدمان صغيرتان ثابتتان في ظل زعزعة لا انتهاء لها، إذ بعثت والدتهما حذاء زهراء مع عليّ ليصلحه ويعيده، أضاع عليّ الحذاء الوحيد لشقيقته حينما كان في السوق، بعدها أصبحا يتبادلان حذاء عليّ في ذهابهما إلى المدرسة، تحتذيه زهراء في الصباح، ثم تعود من المدرسة تركض لاهثة لتبدأ رحلة عليّ بذات زوج الحذاء، استمر كل هذا العناء دون معرفة والديهما، هنا أتعجّب من قدرة الأطفال على التكيف والمواصلة رغم تقطّع السبل وحرصهم على ألا يُكشف أمرهم من قبل والديهم، فيعاقبا الإثنين.

 

البطولة لا تتمثّل بسيفٍ يعلوه سيف ولا بهذا يكسب وآخر يخسر، هي روح طفل تصنع المعجزات، ساعدٌ صغير يحمل ثقلاً بأضعاف حجمه. البطولة قدمٌ صغيرة في ثبوتها يتزن العالم

أتذكر أطفال الخيم المغروسة على أطراف البلاد، من لم يضيعوا حذاء، ولم يضعوه خارج البقالة ليتسنى لهم انتقاء حبات البطاطا كما عليّ في الفيلم، كانوا الاْكثر حرصاً على ألا يفلتوه من بين أصابعهم الصغيرة، هم أصلاً لم يكن حذاءً ما في الكيس خاصتهم، بل كانوا يحملون خطوتهم، يحملون موضع قدمهم في الكيس، ثقل الكيس لم يدفعهم لتركه أو وضعه في أي مكان، هم في الخيم لأن الكبار ركلوهم خارج حسبتهم، فأصبحوا في حالٍ غير الذي اعتادوه، وكما أن في داخل كل طفل من أطفال العالم الرجل الخارق "سوبر مان" يحصنون به أنفسهم في زوايا الحياة الضيقة، ينزلون به من السماء على بؤس ما يعيشونه، يحاربون وفي كل ثانية من الوقت لديهم معركة، وكما هو بديهي ومعروف بأن معارك الأطفال في مواجهة ما يضعه الكبار في طريقهم من مآزق لا يهزمون بها أبداً، هم دائماً دائماً منتصرون.

 

في نهاية الفيلم، يشترك عليّ في مسابقةٍ للركض لطلاب المدارس، فتتعلّق عيناه وقلبه بالمرتبة الثالثة لأن الفائز سيحظى بحذاء رياضي، ليهبه لزهراء شقيقته، عندما وصل خط النهاية، وفوق أكتاف المدرّب كان يسأل إن حظي بالمرتبة الثالثة أم لا، استغرب أستاذه من كونه يسأل هذا السؤال وقد حلّ المرتبة الاولى .وأتعجّب أنا من كيف أن الازمات ترغمنا على أن نطمح لما هو أقل بكثير من قدراتنا، ولكنها تشحن فينا العزم لنستمر في معاركنا، تُرينا كم من الخوارق نستطيع اجتلابها في سبيل ألا يقال عنا مجرّد أرواح عاجزة، فكل المآزق والأزمات التي نواجه تكشف لنا حقيقة أنفسنا، تصنع لنا الصورة الأقرب والأكثر وضوحاً منّا، فلولا أزمة الحذاء ما تمنّى علي المرتبة الثالثة وما طمح لها، وما كان ليرضى بغير الأولى.

   undefined

 

ذكّرني هذا الفيلم بقصة "الحذاء" للكاتب الأردني الساخر محمد طمليه، والتي نشرها ضمن مجموعته القصصية "المتحمسون الأوغاد" في ثمانينات القرن الماضي، فأصبحت فيما بعد دراما وطنية مؤثرة، في فيلم قصير اسمه الحذاء. بدأت الاحداث في القصة ببرد شديد وطفل يريد الذهاب إلى المدرسة كالعادة، تُخرج والدته من صندوق الملابس معطفاً نسائياً وحذاء بمقاسين كبيرين، ترغمه على أن يرتديهما لأن" البرد لا يرحم"، في طريق ذهابه إلى المدرسة وخوفاً من أن يصبح أضحوكة لزملائه خلع المعطف والحذاء ووضعهما تحت صخرة حتى في طريق عودته يرتديهما ثانيةً، فاختار أن يذهب إلى مدرسته حافياً كحال العديد من الأطفال في صفّه.

 

في المدرسة تأخر أستاذهم وعم هدوء غريب سببه بأن هنالك لجنة لتوزيع الأحذية على الطلبة الفقراء، ترغب مقابلة الأطفال واحداً واحداً، فكل من يأتي دوره من الأطفال يعود متأبطاً حذاء جديد. حتى جاء دوره فكان نصيبه حذاء بمقاس كبير، تغوص به قدماه الصغيرتان لأنه لم يكن يعلم ما مقاس قدمه وما هو المقاس أصلاً، عاد إلى صفه مستاءً مما هو فيه، فكان الجميع يتقافز بحذائه الجديد إلا هو لم يصنع شيء سوى أن دفن رأسه بين يديه وبكى. في طريق العودة من المدرسة مرّ بذات الصخرة، ارتدى معطفه وانتعل حذاءه وخوفا من ردة فعل أمه أخفى حذاء اللجنة الجديد مكانهما تحت الصخرة، وقال "سأعود إليه عندما أكبر"، فذهب حزنه واستعاد ابتسامته.

 

مثل هذه الأفلام والقصص يجب أن تعاد مشاهدتها مليّاً وتبقى لها صداها كما لو أنها تعرض لأول مرة، حتى لا ننسى بأن في كل مكان من العالم هنالك معركة يقودها طفل وانتصارات في الظلام، هنالك يد صغيرة ما زالت تقاوم العجز، الفقر، وويلات الحروب والتشريد. فالبطولة لا تتمثّل بسيفٍ يعلوه سيف ولا بهذا يكسب وآخر يخسر، هي روح طفل تصنع المعجزات، ساعدٌ صغير يحمل ثقلاً بأضعاف حجمه. البطولة قدمٌ صغيرة في ثبوتها يتزن العالم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.