شعار قسم مدونات

مهاتير محمد.. عودة الاضطرار بعد غياب الضرورة

مدونات - مهاتير محمد
من شرفة شاهقي بتروناس مرسى سفينة النهضة في ماليزيا ومدرج مطار كبريائها، من محميات الجمال والخضرة، ومشاريع البلاد العملاقة يلقي مهاتير محمد بنظره إلى وطنه الذي بدأ يدب في أوصاله بعض الوهن والركود، وانحراف النهضة عن سكتها الصحيحة، واستشراء الفساد السياسي، أمعن النظر وأنصت بعمق وإذا بأبناء بلده على اختلاف ألوانهم العرقية والدينية والقومية يعزفون النشيد الوطني وينادون بصوت واحد: (عُد أيها الباني) قبل أن يسقط النمر على الأرض، وتُقلع أنيابه، ويصبح في حظيرة بُغاث الطير. على جناح السرعة يلبي فيلسوف النهضة نداء وطنه بعد أن أدرك أن البلاد تمر بأزمة مصيرية تملي عليه التدخل مرحليا على الأقل؛ سيما أن الرجل لديه الكثير من التحفظات والانتقادات على أداء حكومة "نجيب عبد الرزاق" التي أغرقت البلاد بالفساد وغسيل الأموال والصفقات المشبوهة.
 
لقد بدا لفيلسوف النهضة أن البلاد تسير عكس ما تشتهي رياحه، ولم يعد لمشروع النهضة الحضارية وخطة (20-20) حزام أمان يضمن سلامتها من الفشل أو سوء الإدارة؛ لذا عقد مهاتير محمد العزم على العودة مرحليا إلى الحكم من بوابة المعارضة لضبط إيقاع الأداء الحكومي، وترشيد المسار السياسي، والدفع بنظرية "الشمس المشرقة" التي انتهجتها ماليزيا منذ ما يربو على 38 عاما بمزيد من الحيوية.
 
رغم تقدمه الكبير في السن، وشخصيته التي تنزع في كثير من المواقف للدكتاتورية إلا أن هذا لم يمنع الرجل التسعيني من حسم الجولة الانتخابية لصالحه، وحصد معظم مقاعد البرلمان على حساب رئيس الوزراء السابق (نجيب عبد الرزاق) – زعيم ائتلاف الجبهة الوطنية – التي كان يقودها مهاتير محمد في السابق. ويعتبر هذا الفوز غير المفاجئ اعترافا بفضل الرجل في نهضة ماليزيا، ووضعها في صدارة الدول الأسيوية المتطورة، وتحويلها من واحة الفقراء والفلاحين إلى خزانٍ للأغنياء وقبلةٍ للصناعة والإنتاج.
 

ما أن وصل رائد النهضة الماليزية إلى سدة الحكم شرع بتطبيق فصول كتابه محاولا تفكيك الأزمة، واجتراح الحلول التي من شأنها خلق مجتمع نظيف ومتعلم

كانت ماليزيا قبل وصول مهاتير محمد إلى السلطة ترزح تحت آتون التشظي العرقي والديني والقومي، وتضرب مفاصلها الخلافات والنزاعات التي أججها الاستعمار البريطاني لتهميش وتفتيت عرق المالاي باستقطاب العمالة الوافدة من الأعراق الصينية والهندية للسيطرة على البلاد. لم يسكن المدن سوى الأغنياء وأصحاب الثروات من الصينيين والهنود الذين استجلبتهم الشركات الاستعمارية البريطانية للعمل في قطاعات الأعمال والتجارة والعقارات. أما أبناء البلاد الأصليين من المالاي فكانوا يسكنون الغابات ويعملون في قطع الأخشاب والزراعة البدائية البسيطة.

 
وضع مهاتير محمد قبل وصوله إلى سدة الحكم إطارا فلسفيا ثوريا عنيفا، حيث اتهم في كتابه "معضلة الملايو" الذي ألفه عام 1970 شعبه بالكسل والاتكالية والاستكانة، داعيا إياهم إلى ثورة صناعية شاملة تتيح لماليزيا الفرصة للخروج من شرنقة الدولة الزراعية المتخلفة إلى فضاء الدولة الصناعية المتقدمة. آمن مهاتير محمد أن الشعوب هي عماد النهضة؛ فسعى إلى الارتقاء بمواطنيه وبناء الانسان الماليزي متسلحا بعقيدة راسخة أن الأمة التي تثق بقدراتها يمكنها بلوغ أهدافها مهما تعاظمت التحديات. يقول الدكتور مهاتير محمد: (إن استمرار الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وهيمنة الأغنياء على الثروة والمال والموارد، مع بقاء الفقراء ينزفون من آلام حياتهم البائسة يقود المجتمع إلى التصادم، والحال أكثر خطورة لماليزيا التي تتنازعها أعراق وديانات متناقضة ومتباينة". رغم أن كتاب الرجل أثار ضجة كبيرة في ماليزيا لما يحمله من إساءة لشعبه على حد تعبير "المنظمة القومية الملايوية المتحدة" (أمنو)، وتعرضه للسجن عدة سنوات إلا أنه بقي متمسكا بآرائه ينافح عنها حتى وصل إلى قيادة ماليزيا عام 1981.
 
كتاب
كتاب "معضلة الملايو" لمهاتير محمد (مواقع التواصل)
 
وما أن وصل رائد النهضة الماليزية إلى سدة الحكم شرع بتطبيق فصول كتابه محاولا تفكيك الأزمة، واجتراح الحلول التي من شأنها خلق مجتمع نظيف ومتعلم. فانتقل بالبلاد من دولة زراعية تعمل على إنتاج المواد الأولية كالمطاط والقصدير والموز إلى دولة صناعية وخدمية رائدة؛ مما أدى إلى انخفاض معدل الفقر من 52 في المائة في بداية حكمه إلى 5 في المائة عام 2003، أما الدخل السنوي للفرد فارتفع من 1200 دولار إلى 10000 دولار، وزاد عدد الجامعات من 5 إلى أكثر من 400 جامعة ومعهد علمي حكومي وخاص.
 
أدرك مهاتير محمد منذ اللحظة الأولى أن النهضة المهاتيرية لا يمكن لها أن ترى النور إلا من خلال دعم البحث العلمي والتعليم والارتقاء بالتدريب وبناء الكادر الفني والمهني، فأغدق المال على عشرات آلاف المبتعثين في أرقى الجامعات العالمية؛ بغية الحصول على الخبرات والارتقاء بجميع مؤسسات الدولة التي تئن من وطأة الفساد وسوء توجيه الخدمات وسيطرة الأعراق الأجنبية. بعد 22 عاما من العطاء استطاع مهاتير محمد منح بلاده عضوية بين نمور آسيا السبع، والاعتراف بها كأحد أهم الاقتصاديات في القارة العجوز متجاوزا معضلة النشأة والتكوين، والتباين العرقي والأيدولوجي الذي أوجدته سياسات بريطانيا الاستعمارية على مدار أكثر من قرنين من الزمن.
 
بالرغم من الانتقادات التي وجهت إلى مهاتير محمد بالتسلط وتهميش فريقه ونوابه السياسيين، إلا أن قرار الزعيم الماليزي بالاستقالة ومغادرة الحياة السياسية كان ضروريا بعد أن سرت الطمأنينة إلى يقينه بأن البلاد تعيش نشوة اقتصادية وحضارية لا بد من دفع وتيرتها للأمام بتجديد إدارة الحكم فيها لتبقى معافاة ولا تسقط في وحل الجمود وتراجع الابتكار. فمن الصحي تجديد الأفكار والعقول وتحديث الرؤى الاقتصادية والتنموية لتواصل ماليزيا المنافسة والتسابق المحموم على الفرص والموارد والأرباح. لقد كان تخلي مهاتير محمد عن السلطة قرار الضرورة بعد أن رأى المنزلقات الخطيرة التي آلت إليها البلاد المتخلفة من استبداد وتوريث وهو المرض الخبيث الذي تعاني منه جميع الدول العربية وأدى إلى فشلها اقتصاديا وتنمويا وحضاريا.
  

مهاتير محمد (الجزيرة)
مهاتير محمد (الجزيرة)

 
وفي أجواء التنظير الفكري لتدوير العقول وتجديد الدماء بدا للزعيم الماليزي أن رحلة عودة الاضطرار بعد خمسة عشرة عاما من غياب الضرورة لا مناص منها عندما نادت جميع فئات المجتمع زعيم الثورة الماليزية الحديثة بصوت واحد لحماية مكتسبات النهضة من الفساد وغسيل الأموال والرشوة والغلاء والتضخم ومصادرة الحقوق السياسية، ومحاولة (نجيب عبد الرزاق) طمس الهوية الإسلامية للبلاد والتضييق على الحركات الإسلامية التي بدأت تأخذ من ماليزيا ملاذا لها؛ سيما جماعة الاخوان المسلمين عقب سقوط الموجة الأولى من الربيع العربي وعودة الدولة البوليصية.

 
الضرورات تبيح المحذورات قاعدة فقهية وسياسية أيضا حملت مهاتير محمد مرة أخرى إلى رئاسة الوزراء، ومعها تتجذر قواعد الحضارة والتاريخ في أعماق الأرض، وتعانق شواهدها أجرام السماء، وتحلق قلاعها الشاهقة فوق قرص الشمس الذهبي، فمتى يطل زعماؤنا من شرفات أبراجهم العاجية إلى شعوبهم التي يطحنها الفقر والأمية وأمراض الاستبداد وسوء توزيع الثروة؟ متى تكون ماليزيا وغيرها من الدول الناهضة دليلا تسترشد به بلادنا العربية ونعيد النظر في العلاقة بين الحاكم والمحكوم ونؤسس لدستور جديد يكفل الحقوق المدنية والسياسية والقانونية للجميع؟ ثم متى ندرك أننا بحاجة إلى عقد اجتماعي يتعارف عليه جميع الأفراد؟ وأخيرا متى ندرك أن العدالة الاجتماعية والتنمية المعرفية وبناء الانسان هم عماد النهضة وصراطها المستقيم؟ يا ليت قومي يعلمون!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.